سنوات التيه والتهلكة: إلى متى؟ بقلم د. فادي الحسيني

الآراء الواردة في المقال لا تعبر إلا عن رأي صاحبها  ولا تعبر بالضرورة عن راي بال ثينك للدراسات الاستراتيجية

بقلم د. فادي الحسيني

كنت ومازلت من المؤمنين بما  أسموه الربيع العربي: إنتفاضة شعوب، ثورة أمة، ورغبة جارفة في تغيير أمر واقع مُقيت. ولكن ما أن مرت السنين، بات أكثر الناس كارهين،  متشائمين، مترددين، بل وعازفين عن الإقرار بأن رغبات الشعوب قد تتعرض لإنتكاسة أو تراجع أو حتى وهن وتيه. أما في نظر المترددين، لم يؤخذ في الحسبان صدق رغبات المحتجين، وجسارة المنتفضين، بل وإستكثروا أن يكون يوماً لدى المواطن العربي قرار بنفض غبار الذل وتغيير الأمر الواقع المهين، فكانت الحجة الأسهل والأكثر رواجاً بـأنها نظرية مؤامرة خارجية حيكت بدهاء، منذ لحظة بدايتها – أي حين أحرق بوعزيزي نفسه في تونس، إلى يومنا هذا، دون أية أخطاء تُذكر، إلى أن وصلنا للنزعات العرقية والطائفية وأحاديث سايكس بيكو الجديد وتقسيم المقسم أصلاً في عالم العربي بات أكثر من أي وقت مضى مفتت، ضعيف، وحزين.

نعم، التدخل الخارجي أصبح حقيقة لا تحليل، وكلما طال أمد الثورات كلما إزدادت حدة التدخل وبالتالي التبعات القاسية على سكان البلاد. في تونس، لم تُمهل الثورة هناك القوى الخارجية الفرصة للتعامل سريعاً مع الأحداث، لأنها جاءت صادمة ودون تخطيط كما إعتقد البعض. في مصر، كانت الأحداث سريعة أيضاً، وكان التدخل الخارجي محدود وفي بدايته، ولكن الأمور حُسمت سريعاً فلم يكن متسع للقوى الخارجية أن تتدخل لتحرف بوصلة الأحداث في إتجاه يخدم مصلحتها. أما في باقي دول الربيع العربي فكان تباطء تطور الثورات سبباً كافياً ليعطي لكافة القوى الفرصة للتدخل والإنقضاض على ثورات شعوب راغبة في التغيير، فبدأت المآسي تتسلل من بيت لبيت، ومن بلد لبلد، إلى أن وصل بنا الحال أن بدأ الناس يحمدوا الله على نعمة الحاكم الواحد، الآمر الناهي، الدكتاتور، حتى وإن قمعهم وذلهم، وحرمهم من حقوقهم وحرياتهم، فبلاء أهون من بلاء، والفقر والذل والقهر أسهل من القتل والتشرد واللجوء.

ولكن كيف فشلنا في ثوراتنا في حين نجح الآخرون؟ وكيف إستطاعوا هم أن يبنوا من أوجاعهم أوطاناً ومن آلامهم ثقافات ورقي في حين هدمنا نحن بأيدينا أمجادنا، وحولنا عزتنا وقوة وحدتنا تشرذم وتفرق؟

السبيل الأيسر هو إتهام الآخر البعيد، بالتآمر علينا لجعل عزيز عزيزنا ذليل، يقبل الهوان، ينشد حياة، بأي شكل حتى وإن كانت كحياة العبيد، أي تحويلنا من عرب لأي شيء إلا عرب، فأضحى منا من يخجل أن يقول بأنه عربي، فإستنهض أصول إندثرت من آلاف السنين، وأحيا نعرات دُفنت منذ زمن بعيد. قد يكون في هذا الإتهام شيء من الصحة، فالتآمر على الآخر ليس أمر مستحدث في التاريخ البشري، ولكن التاريخ يحدثنا أيضاً بأنه لا قلعة أو سور منيع، إستطاع غازٍ أن يعبره دون مساعدة من الداخل أو وهن في أحد جوانب هذا السور الحصين.

ضعفنا جاء من داخل أسوارنا، فلم تعد حصوننا حصون تقوى على صد أي غزو خارجي، لأن جبهاتنا الداخلية متفككة منهكة  فدب فيها الوهن وأصبح التيه عنوان حكاياتنا. ولكي لا يختلط الأمر على القارئ ويسرح بفكره إلى الزمن القديم، فالغزو اليوم ليس بالجنود والحاميات، بل غزو ثقافي فكري على كافة المستويات. نعم، جبتهنا الداخلية ضعيفة لدرجة لا يمكن أن يُصدقها عقل، بل وتسارعت وتيرة الضعف والوهن هذا بصورة لا يمكن تصورها.

فمنذ خمسينيات القرن الماضي، وما أن تسيد الحكم في بلاد العرب رؤساء إستقووا بالخارج – إما شرقاً أو غرباً – رأوا في تعليم وتثقيف شعوبهم الخطر الأكبر على بقائهم، وناقوس خطر يدق مسمار في نعش حكمهم، فإن علم المواطن أين تبدأ حقوقه ومتى تنتهي واجبات حاكمه، يُضحي المحكوم هو الحاكم الفعلي. فبدأت مستويات التعليم في التراجع، وأضحى الكتب والكتاب أما موجهين لخدمة الحاكم أو ممنوعين لينشدوا حرية كتابة خارج حدود أوطانهم. ومنه، فلم يكن من العجيب أن نرى – وحتى يومنا هذا – أن يكون في بلادنا العربية تجنيداً إجبارياً وتعليم إختياري، وهو الأمر المغاير تماماً في بلاد الغرب، فترى هناك تعليماً إجبارياً، بل ومدعوماً من الحكومات، في حين يترك الخيار للمواطن في الإتحاق بالتجنيد من عدمه.

وبالحديث عن مستويات التعليم في بلادنا العربية، فبدائ ذي بدء لا يجب علينا أن نُستدرج للشعارات الفارغة كمجانية التعليم،  وخاصة أن المدارس الحكومية لا تقدم الحد الأدنى من العلم الذي يتواءم مع تطورات هذا العصر، وسط تدني مستويات المدرسين وإكتظاظ الفصول بالطلاب، ومحدودية المستويات العلمية التي تُقدم في هذه المدارس. في المقابل ظهرت المدارس الخاصة، وأكثرها أجنبية – أمريكية، فرنسية، كندية، ألمانية وغيرها، ولكنها حكراً على أبناء طبقة بعينها، لا يقوى المواطن العادي أن يُدخل أبنائه فيه للارتفاع المبالغ فيه في أقساط الدراسة. الأمر المثير للدهشة هو أنه وعلى الرغم من أن هذه المدارس الأجنبية تقدم ما يُشبه الذي تقدمه في بلادهم كتشجيع القراءة والفنون والرياضة، إلاّ أن اكثر الطلاب العرب لا يأخذون منها سوى سطحية الثقافة الغربية، شكلاً لأنهم فور عودتهم لبيوتهم يرجعون للثقافة التي لا ترى في هذه المدراس سوى مظهراً إجتماعياً يتميز به علية القوم.

قد لا يحق لنا أن نقوم بالتعميم، ولكن بقراءة بعض المعطيات الأولية لا يمكننا تجاوز هذا الإستنتاج، فلم نسمع منذ أن ظهرت هذه المدارس في البلاد العربية منذ أكثر من خمسة عشر سنة، عن عالم أو مفكر أو باحث فضاء أو روائي عربي تخرج من هذه المدارس، لأنه وبكل بساطة إن تميز أحد الطلاب تكون وجهته على الفور بلاد الغرب، رغبة، أو إستمالة أو ضغط. أما من تبقى، فيحتفظ لنفسه بسطحية ثقافة الغرب، وعليه لا يجدر بنا الإستغراب حين نرى أنه وفي الوقت الذي بدأ الغرب في إفراز حكومات وأحزاب قومية محافظة، يبتعد العرب عن قوميتهم، ينشدون إنفتاحاً وحداثة تشبه بشاكلتها الغرب. أما من تبقى في المدارس العامة والحكومية، فتهالك المستويات التعليمية، وبالتوازي مع فقر ثقافة القراءة والتنوير، سهّل وبشكل كبير تسلل الأفكار الهدامة المتطرفة والشاذة إلى بلادنا- والنتائج واضحة.

ومع إستمرار ثورات العرب، إزدادت حدة السقوط، فأظهرت القمة العالمية للحكومات في دبي في منتصف شهر فبراير من هذا العام أرقام ومؤشرات مرعبة تنذر بما هو أسوأ: فمن مجموع 410 مليون مواطن عربي يوجد 57 مليون لا يعرفون القراءة والكتابة، و13.5 مليون طفل عربي لم يلتحقوا بالمدرسة هذا العام. وينتج العالم العربي مجتمعاً 20 ألف كتاب سنوياً فقط، أي أقل من دولة مثل رومانيا، كذلك إستطاع العرب مجتمعين أن يقدموا 2,900 براءة اختراع فقط، بينما قدمت دولة ككوريا الجنوبية 20,201 براءة اختراع.

ولأن انهيار التعليم  يعني انهيار الأمة، جاءت النتائج واضحة لا ريب فيها، فعلى الرغم من أن العالم العربي يمثل 5% فقط من سكان العالم إلا أنه يعاني 45% من الهجمات الإرهابية عالمياً، وأضحى هذا العام 75 % من لاجئين العالم عرب، و68 %من وفيات الحروب عالمياً عرب، وتم تشريد أكثر من 14 مليون عربي بين الأعوام 2011 و2017، وفي ذات الفترة وصلت الخسائر البشرية إلى 1.4 مليون قتيل و جريح عربي، وتم تدمير بنية تحتية بقيمة 460 مليار دولار، أما كلفة الفساد في المنطقة العربية فوصلت تريليون دولار، حيث كانت خمس دول عربية في قائمة العشر دول الأكثر فساداً في العالم.

في ختام مقالنا هذا نقول أن هلاك قوم لا يكون بفعل الخارج، لأن تدمير الأمم لا يحتاج لجيوش أوبوارج، بل يستدعي فقط قتل التعليم ووأد الفكر والعلم والتثقيف، فيموت المريض على يد طبيب فاشل، وينفر الناس من الدين بسبب شيخ جاهل، ويضيع الحق بوجود قاضٍ غير عادل، وحينها تأكد بأن على رأس هذا البلد قائد بمستقبل أمته غير مبال.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى