“أصبح العنف من حالة طارئة إلى سلوك يومي وثقافة دائمة في المجتمع” هذا أكثر ما قد يؤثر على النشء في تحديد الطرق التي يتبعونها في حل النزاعات والتعبير عن الاحتجاج وهم الأشد تأثرا بالممارسات العنيفة السائدة في المجتمع إذا ما قارناها بباقي فئات المجتمع نظرا لهشاشة وضعهم الاجتماعي وقلة الوعي وعدم الادراك الكامل لتبعات العنف هكذا بدأت الاعلامية والكاتبة دنيا الأمل إسماعيل رئيس مجلس جمعية المرأة المبدعة، خلال استضافة بال ثينك لها ضمن برنامج اللاعنف منهج حياة الذي تنفذه عبر راديو ألوان ضمن مشروع تجمع المؤسسات الأهلية من أجل نشر ثقافة اللاعنف، مضيفة أن المجتمع الفلسطيني له خصوصية في كل شيء على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والنفسي، وبناء على هذه الخصوصية أطفالهم يتعرضون للعديد من الصدمات والضغوطات نتيجة الخوف، وعدم الاستقرار، وعدم الشعور بالأمن، والاحباط، وخطورة هذه المشاعر الانسانية تظهر عندما تفقد صفتها المؤقتة وتصبح هي المشاعر شبه المهيمنة والمسيطرة على شخصية الأطفال.
وأشار اسماعيل إلى ان كل هذه المشاعر تحولت إلى ردات فعل عكسية ظهرت على الممارسات والسلوك اللفظي والبدني وأصبح العنف ينتقل من الإعلام والمشاهد الصادمة إلى فكر هؤلاء الأطفال مباشرة واستوطنت منطقة لا وعيهم وبالتالي هم يصدرونها في لعبهم فأصبحنا نرى الأطفال يلعبون “عرب ويهود” ويمثلون مشاهد الاجتياح والحروب التي عايشوها، إلى جانب الأمراض النفسية والجسمية التي تعتبر ترجمة صريحة لما يراه الطفل الفلسطيني.
وحول أهمية التفريغ النفسي الإيجابي لما يتعرض له الأطفال قال الناشط المجتمعي في مجال الأطفال غسان أبو لبدة أن على الأسر الفلسطينية أولا أن تنتبه لما يتعرض له الطفل من مشاهد وتجارب عنيفة وصادمة من أجهزة التلفاز والأجهزة اللوحية التي اقتحمت كل البيوت، ومن ثم على المؤسسات أن تساهم بكل الطرق الممكنة من أجل رفع هذه الأسباب التي تؤدي إلى إفراغ كل ما يصب في وعي الطفل على محيطه، وعلى المؤسسات كذلك العمل على خلق مساحات للتفريغ الإيجابي والحد من هذه السلوكيات، وتعزيز الحوار مع الطفل لفك الارتباط بينه وبين الشاشات، وتوعية الأهالي بأهمية الحوار من أبنائهم، وأن تنجنب “نحن الكبار” نسقط ما نتعرض له من عنف نحو الأطفال، منوها إلى أن مسؤولية الطفل تقع على كاهل المؤسسات بجميع مجالاتها المختلفة (الإعلامية والتربوية العاملة بمجال الطفولة) وخاصة في ما يتعلق برفع الوعي المجتمعي العام.
ذكرت السيدة دنيا الأمل أن على المجتمع البدء في تغيير الأساليب التربوية السلبية المتبعة داخل الأسرة مثل “اللي ضربك اضربه” و”أنا وابن عمي على الغريب” لأن ما يحصل في المجتمع من عنف هو محصلة التنشئة الممارسة على مدار سنوات طوال، بل ويجب على المجتمع الانتباه إلى ما يتلفظ به من كلمات فلو حللت اللغة الفلسطينية ومفرداتها ستجد أنها ذات طابع عنيف مرده تعرضنا لقهر تاريخي، مضيفة ان حتى مطالبتنا بحقوقنا أصبح ذو صبغة تعسفية تحت مبدأ “أريد أن آخذ حقي بغض النظر عما سيحدث للآخر”، مجملة أن كل المظاهر الاجتماعية في فلسطين بحاجة لتفكيك وتحليل وتقويم وإعادة تركيبها بشكل سليم بناء على قاعدة أن الطفل مواطن له حقوق وعليه واجبات ويجب المزواجة ما بين المطالبة بالأولى وتنفيذ الثانية بشكل راقي.
وأكد ابو لبدة أن الطفل بحاجة لمساحة حرة ليعبر فيها عن ذاته واكتشاف ما يحدث حوله بعيدا عن مثلث (حرام وعيب وممنوع) دون توضيح والطفل إن لم يجد هذه المساحة داخل البيت فسيذهب إلى الخارج للبحث عنها، ولكن هذا لا يمنع أن الطفل بحاجة الاحتكاك بالشارع من وقت إلى آخر، إلى أنه يجب ان يُحصن داخل المنزل بمبادئ ومحددات ثابتة لحمايته من عنف الشارع، وخاصة المراهقين منهم، مرجحا أن أغلب الخلافات والنزاعات المجتمعية مردها عدم تقبل الآخر وغياب مفاهيم اللاعنف من حوار وتسامح، وانتشار الأساليب العنيفة في التربية داخل البيت.
وتخلل الحلقة التي بثت يوم الإثنين الماضي، عرض استطلاع رأي للمواطنين الفلسطينيين حول امكانية وصحة عزل الطفل بنسبة 100% عن الشارع وشغله بالنشاطات اللامنهجية، وأفادت أغلب الآراء استحالة العزل، مؤيدين ضرورة احتكاك الطفل بالشارع بنسب متفاوتة، فبعضهم فضل فرض رقابة ومتابعة للطفل، والبعض الآخر شدد على أهمية تدريب الطفل على التعامل مع المواقف المختلفة التي سيتعرض لها في الشارع، وآخرون عزوا ضرورة قضاء الطفل أوقاتا في الشارع كي يمارس فيه النشاطات الرياضية واللعب لما لهذا من أهمية في محاربة تعرضه للبدانة، والبعض نوه إلى احتياج الطفل للاحتكاك مع أقرانه في الشارع لأنه لو لم يفعل سيعاني الوحدة، وهناك من أشار لتوجيه الطفل للعب في الشوارع الفرعية الصغيرة كونها أقل خطرا من الشوارع الرئيسية، واللافت أن أغلب المشاركين في الاستطلاع ذكروا أن الطفل بحاجة إلى المشاركة بالنشاطات اللامنهجية بشكل أساسي دون عزله تماما عن الشارع.
وهنا أشارت السيدة دنيا الأمل إلى أنه لا يوجد طريقة سحرية ووصفة ثابتة للتعامل مع كل الأطفال، فكل طفل له خصوصية، وبيئة وأشخاص محيطين به، وقدرات خاصة، وهذا ما يمايز ما بين شخصياتهم، ولكن الأهم أن نتعامل مع الأطفال بأنهم رأس المال الحقيقي للمجتمع وهو من سيقوده مستقبلا.
من جانب آخر، ونصح أبو لبدة الأهالي في البيت باتباع طرق مثل الدراما والرسم في التفريغ النفسي للأطفال بشكل يومي بالإضافة إلى إشراك الطفل في صياغة جدول النشاطات الأسبوعية والقوانين المنزلية لما في هذا من أثر على بناء شخصيته والتزامه، موضحا أن هذا هو المفتاح الأساسي في نسج النشاطات اللامنهجية الناجحة التي تقوم بها المؤسسات المعنية بالطفولة، فالاطفال يحتاجون دائما لسؤالهم عما يرغبون بفعله خاصة مع إختلاف قدراتهم وميولهم، ووظيفة الكبار هنا هي تنفيذ ما يرغب به الأطفال ضمن قالب مناسب يضمن تعزيز القيم الإيجابية التي تتماشى مع مفاهيم اللاعنف، مشيرا إلى أنه عند تنفيذ نشاط مثل الرسم أو التمثيل ليس من الضروري أن يكون الطفل رساما بارعا أو ممثلا محترفا فالهدف هنا هو التفريغ والتعبير عن النفس وقراءة نفسية الطفل من خلال أداءه وتحليلها لمعالجة السلوك الخطأ والمشكلة، من ثم إحلال السلوكيات الصحيحة.
وعن مبادرة “بهدوء بنحلها” قالت إسماعيل، ان هذه المبادرة جاءت كثمرة تعاون بين جمعية المرأة المبدعة ومؤسسة بال ثينك، التي نفذت مع 20 فتاة أعمارهن من 10 سنوات إلى 15 سنة بهدف حل مشكلة العنف وتعزيز ثقافة اللاعنف، والبداية كانت عقد ورشة عمل مع أمهات الفتيات للحديث معهم حول أهمية الحوار والتسامح وقبول الآخر واللجوء إلى حل النزاعات بالطرق السلمية عبر الوساطة والتحكيم، ولماذا نحن كجمعية نرغب في غرس هذه المفاهيم في الفتيات، وبحمد الله وجدنا قبولا كبيرا من الأمهات، ومن ثم بدأ تدريب الفتيات حول مفاهيم العنف واللاعنف، باستخدام الطرق الحديثة في التدريب، وكانت النتيجة أن الفتاة صاغوا وثيقة تتضمن بنودها وشروطها للتعامل الراقي ونشر ثقافة اللاعنف بين الفتيات والمدارس، وسنعلن عنها يوم الأربعاء المقبل ونجمع توقيع عدد من الشخصيات المؤثرة في المجتمع، بهدف العمل سويا على إيقاف ثقافة العنف المجتمعي.