حول دور الاونروا ومدير عملياتها في قطاع غزة جون جينج
عمر شعبان
بال ثينك للدراسات الإستراتيجية
قد يكون شائكا جدا الحديث عن رجل غير عادي يدير مؤسسة ضخمة لم يتوقف الجدل حولها منذ تشكيلها عشية النزوح الفلسطيني في عام 1949. إنه السيد جون جينج الذي بدأ عمله كمدير عمليات الاونروا في قطاع غزة في فبراير 2006. هو ايرلندي من مواليد عام 1965 متزوج وحاصل على دكتوراه في العلوم السياسية والقانون, عمل في العديد من مناطق النزاع في إفريقيا وأوروبا وكوسوفو وايرلندا قبل القدوم إلى فلسطين.
جاء في مرحلة مفصلية وقاسية كان يمر بها قطاع غزة بشكل خاص والأراضي الفلسطينية بشكل عام, تمظهرت هذه الظروف في حصار خانق غير مسبوق, فلتان أمني وانتشار لظاهرة خطف الأجانب, ضعف لهيبة السلطة الوطنية الفلسطينية والاقتتال الداخلي, قدوم حركة حماس إلى النظام السياسي الفلسطيني, مقاطعة المجتمع الدولي وتجميد مساعداته للسلطة الوطنية والشعب الفلسطيني. هذا المجتمع الدولي الذي يكيل بمكيالين طالب الفلسطينيون بتنظيم انتخابات ديمقراطية, حيث كانت كذلك بشهادة آلاف المراقبين الدوليين ومن جهة ثانية قام هذا المجتمع الدولي بفرض حصار و مقاطعة قاسية عندما لم تعجبه نتائج هذه الانتخابات. لم تتوقف المأساة عند هذا الحد, بل قامت إسرائيل بفرض حصار هو الأقسى في التاريخ بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في يونيو 2007, ثم جاءت عملية “الرصاص المصبوب” حيث أعلنت حكومة إسرائيل حربا غير مسبوقة مستخدمة كل ما لديها من قوة عسكرية على قطاع غزة الفقير و المحاصر, مسببة دمارا و قتلا هو الأكثر كثافة بمقياس المتر المربع حيث تم قذف ملايين الكيلوجرامات من المتفجرات على مساحة لا تزيد عن 400 كيلومتر مربع و على مجموع بشري هو الأكثر كثافة على وجه الأرض.
لقد فرضت هذه الظروف تحديات غير مسبوقة أمام الاونروا ومدير عملياتها في غزة السيد جون جينج… كيف يمكن العمل في مثل هذه الظروف المعقدة؟؟ ومن أين يبدأ وما هي الأولويات!! وكيف يمكن المحافظة على الحيادية التي يجب أن تلتزم بها وكالة الغوث كمؤسسة أممية!! وهل يمكن الحياد أمام هذا المستوى الهائل من المعاناة!! لقد أدرك الرجل حجم المأساة في غزة منذ البداية، حيث وصف الوضع في قطاع غزة بدقة بقوله: إن وضع السجناء في سجون العالم أحسن من وضع السكان في قطاع غزة وإننا عندما نتحدث عن مستويات الخدمات والمعيشة في قطاع غزة يمكن أن نقول أن أوضاع السجون في الخارج أحسن من الوضع القائم في قطاع غزة وأن السجين في أوروبا يتلقى العناية الصحية أكثر من العناية التي يتلقاها أهل قطاع غزة”.
رغم هذه الظروف التي قد يبدو استحالة العمل فيها, فقد استطاع جون جينج وبتصميم غير عادي أن يجعل من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين على قدر المسؤولية وعلى قدر التوقعات منها, حيث بدأ في إدخال إصلاحات جذرية على هذه المؤسسة البيروقراطية الضخمة والتي ينظر لها المجتمع الفلسطيني بشكل عام واللاجئين بشكل خاص على أنها خشبة الخلاص له من الحرمان, الفقر, البطالة, حيث أدخل تحسينات جوهرية في مجالات التعليم والصحة والشؤون الاجتماعية, لم يكن لمثل هذه التعديلات والتحسينات الجوهرية وغير التقليدية أن تمر دون نقد جارح في معظم الأحيان من بعض شرائح المجتمع التي رأت في هذه التحسينات انحرافا عن التوجهات التقليدية لوكالة الغوث ومحاولة لتغريب المجتمع الفلسطيني الشرقي, حتى وصل الأمر إلى محاولة اغتيال تعرض لها في مارس 2007 . وقد نجا منها بأعجوبة .
لقد أدرك جون جينج أن مسؤولية الاونروا لا تقتصر على تقديم الحد الأدنى من الغذاء, الصحة والتعليم, بل يجب أن تتطور لتشمل بناء الإنسان ذاته, و بدلا من سياسة تقليص الخدمات تجاه اللاجئين الفلسطينيين التي انتهجتها الإدارات السابقة, انتقلت وكالة الغوث إلى تقديم خدمات جديدة ذات بعد تنموي, حيث شملت شرائح جديدة وتقديم خدمات راقية بمستويات دولية. فقد بدأ بتنفيذ برامج جديدة ونوعية تستهدف الأطفال من خلال تنظيم برامج ألعاب الصيف ( Summer Games) التي يستفيد منها حوالي مائتي وخمسون ألف طفل سنويا, كذلك توسيع برامج التشغيل لتشمل ألاف الخريجين والتي تهدف إلى تأهيلهم لتمكينهم من خدمة المجتمع الفلسطيني. وحديثا قامت وكالة الغوث وللمرة الأولى بتنظيم مخيمات صيفية داخل المستشفيات تستهدف الأطفال المرضى.
عندما بدأت إسرائيل عدوانها على قطاع في 27 ديسمبر من العام الماضي, كان السيد جينج يمضي إجارة أعياد الميلاد في وطنه, لكنه أمام مسؤولياته و التزاماته الأخلاقية قرر العودة إلى قطاع غزة ليكون على رأس عمله في تلك الظروف القاسية التي عاشها القطاع, وبدأ العمل ليل نهار مسخرا جميع إمكانات الاونروا لتخفيف المعاناة عن سكان قطاع غزة, فقام بتخصيص عشرات المدارس والمقرات الأخرى لاستيعاب المواطنين الذين تركوا منازلهم تحت تهديد القصف الإسرائيلي الذي لم يتوقف لحظة طوال ثلاث أسابيع الحرب, ليس هذا فحسب, فقد عمل جون جينج على تعريف العالم بما يدور في قطاع غزة حيث لم يوفر فرصة للظهور أمام الصحافة العالمية شارحا آثار العدوان ومطالبا المجتمع الدولي بالتدخل السريع لوقف آلة الحرب الإسرائيلية المجنونة, مما دفع الكثير من الفلسطينيون على وصفه بأنه “الناطق باسم الشعب الفلسطيني”. مؤكدا على أن وكالة الغوث لن تترك سكان قطاع غزة وحدهم, ورغم محدودية التمويل المتاح بل ستعمل دائما على تطوير عملها وتوسيع دائرة المستفيدين من برامجها وتقديم الجديد والنوعي.
لقد واصل السيد جون جينج أثناء الحرب دعوة قادة المجتمع الدولي إلى التدخل لوقف إطلاق النار فوراً، واصفاً ما يجري في قطاع غزة بالجنون الذي لم يشهد له التاريخ مثيلاً. وخاطب قادة العالم عليكم ألا تناموا وألا تشربوا وألا تأكلوا حتى توقفوا قتل الأبرياء في قطاع غزة، وانه لا يوجد في قطاع غزة صحفيين دوليين يروا ما يجري لنقل الحقيقة. وبرغم كل المطالبات بوقف الحرب جاء الرد الإسرائيلي على تصريحات السيد جينج باستهداف الطائرات الإسرائيلية للمدنيين في مدارس الاونروا منتهكة القوانين الدولية التي تطالب بحماية المدنيين في وقت الحرب, حيث قتل وجرح العشرات من المواطنين في مدارس تابعة للوكالة دليل على أن العدوان الإسرائيلي لم يكن يستثني مكانا في قطاع غزة من القصف بما فيها مقرات وكالة الغوث مما شكل صدمة حقيقية, حيث طالب السيد جينج بتحقيق رسمي في هذه الجريمة.
مؤخرا نظمت وكالة الغوث مهرجانا نوعيا أدخل قطاع غزة في كتاب جينس للإنجازات القياسية من خلال تطيير حوالي 4000 طائرة ورقية من مساحة جغرافية محدودة ( 700 متر مربع) و بطائرات ورقية صنعها أطفال قطاع غزة بأيديهم حاملة معها أحلامهم برفع الحصار وتحقيق السلام والعيش بكرامة كباقي أطفال الأرض. لقد استطاع أطفال قطاع غزة بهذه الفكرة المبدعة أن يتبوؤا عناوين الأخبار على القنوات الفضائية الإخبارية الدولية مثل CNN,BBC وغيرها. يؤمن السيد جون جينج بأن الشعب الفلسطيني بحاجة لعدالة المجتمع الدولي أكثر من أمواله, فعندما تتحقق العدالة يتحقق كل شيء وأنه في حال رفع الحصار وفتحت المعابر عن قطاع غزة فان الشعب الفلسطيني لن يكون بحاجة للمواد الغذائية لأنه سيوفرها لوحده. قبل ثلاث أسابيع نشرت صحيفة معاريف الإسرائيلية خبرا زائفا مفاده أن السيد جون جينج قد هرب من قطاع غزة وذلك في محاولة منها للنيل من حجم التقدير الذي يكنه المجتمع الفلسطيني له, فسارع السيد جينج ليظهر على محطات الجزيرة والبي بي سي ليقول: أنا موجود في قطاع غزة وأمارس عملي كالمعتاد.
لقد استطاع السيد جون جينج بشخصيته الكاريزمية وعمله الدءوب ورؤيته الإنسانية والمهنية العالية أن يحدث حراكا حقيقيا ونوعيا حول القضية الفلسطينية على جميع الأصعدة. فهو دائم الحديث عن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية, وهو يلتقي بكل من يزور قطاع غزة من شخصيات رسمية مرموقة يحدثهم عن عدالة القضية الفلسطينية وعن نتائج سياسات الاحتلال على المجتمع الفلسطيني مناشدا إياهم الوقوف أمام مسؤولياتهم الإنسانية والأخلاقية والقانونية لوقف ممارسات الاحتلال. ودائما يطالب الجميع بزيارة قطاع غزة للإطلاع على الأوضاع في قطاع غزة بما يهدف إلى تغيير الصورة النمطية عن سكان القطاع, في ظل الانقسام الذي أضر بصورة القضية الفلسطينية وفي ظل تفرد ماكنة الإعلام الإسرائيلية بالساحة الدولية, يبرز دور أشخاصا مثل السيد جينج للعمل على تصحيح الصورة ووضعها في إطارها الذي يجب أن تكون عليه وهي قضية شعب يرزح تحت الاحتلال ويناضل من اجل نيل حقوقه السياسية وحقه في التنمية والازدهار. إن المجتمع الفلسطيني الذي يناضل من أجل تحقيق هذا الحلم يشعر بالتقدير و الامتنان لكل من يعمل على مؤازرته و دعمه في مسعاه السامي.