قراءة في كتاب سياسات التغيير في فلسطين .. بناء الدولة و المقاومة السلمية
قراءة في كتاب سياسات التغيير في فلسطين .. بناء الدولة و المقاومة السلمية
يحق للفلسطينيين أن يقولوا ” لا يوجد شريك إسرائيلي للسلام معنا ” و على الغرب أن يعيد النظر في موقفه من حركة حماس
إن الفلسطينيين هم من يحق لهم القول ” لا يوجد شريك إسرائيلي للسلام معنا “” إن الفشل في تحقيق السلام بين إسرائيل و الفلسطينيين ليس مرده لعدم وجود شريك فلسطيني كما تزعم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بل مرده إلى أن المجتمع الإسرائيلي برمته و النخبة السياسية فيه بشكل خاص لم تلحظ وبشكل مقصود التغييرات الإيجابية الجذرية التي تحصل في المجتمع الفلسطيني نحو عملية السلام ” ” على الغرب أن يعيد النظر في موقفه من حركة حماس خاصة و من الإسلام السياسي عامة و يعمل على إستيعابها و التفاعل معها.
هذه الخلاصات الهامة لم تصدر عن سياسي عربي ولا عن سياسي فلسطيني بل هي ملخص كتاب صدر هذا الشهر عن دار بلوتو للنشر في بريطانيا لمؤلفه د. مايكل بروننج . ففي كتابه المكون من 250 صفحة من القطع الصغير و مكون من خمسة فصول ، و الذي جاء عنوانه “سياسات التغيير في فلسطين , بناء الدولة و المقاومة السلمية”
The politics of change in Palestine, state building and Non-violent resistance
يرصد د. مايكل بروننج التغيرات الايجابية التي يشهدها المجتمع الفلسطيني على مختلف الصعد:حركة حماس, حركة فتح , السلطة الفلسطينية و المقاومة الشعبية السلمية و ذلك فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل و سبل إنهاء الاحتلال . ويرى أن هذه التغييرات والتوجهات الفلسطينية تواجه بتناقض صارخ مع ما يسمى “سياسة الركود والتحول المتعاظم إلى اليمين على الجانب الآخر” . يوثق الكتاب أن حركة حماس ذاتها تشهد عملية تغيير و تطور جذرية نحو السلام بشكل لا يختلف كثيرا عما حدث و يحدث داخل حركة فتح و السلطة الفلسطينية و حركة المقاومة السلمية للمجتمع الفلسطيني برمته . كما يخلص الكتاب إلى القول بأن التطورات الايجابية التي شهدها الموقف الفلسطيني في نظرته و رؤيته لحل الصراع مع إسرائيل يقابلها على الجانب الإسرائيلي تطورات في الاتجاه المعاكس تتسم مزيدا من التطرف و إنكار حق الآخرين.
تكمن أهمية هذا الكتاب و مصداقية خلاصاته في كون مؤلفه د. مايكل بروننج هو ألماني حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية و ناشط في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، مما يعطيه قدرة عالية على فهم و تحليل دور الأحزاب السياسية و كيفية تطور أدائها , كذلك هو يعمل منذ سنوات مديرا لمؤسسة فريدريتش أيبرت الألمانية في فلسطين وهي مؤسسة تتبع الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني و هي فاعلة جدا في مجال الحوار و التفا كر السياسي . مما أتاح للسيد بروننج الاطلاع القريب و الدقيق على الوضع الفلسطيني بتفاصيله اليومية من حواجز , جدار , حصار ، كما يقوم بزيارة قطاع غزة على فترات متفاوتة و قريبة ،وقد شارك في جلسات مؤتمر حركة فتح السادس الذي عقد في أغسطس من العام 2009 .
حركة حماس
إن التغير الحادث في الساحة الفلسطينية لم يتوقف عند القوى السياسية المعروفة بتأييدها لعملية السلام، بل امتد ليشمل حركة حماس أيضا. ففي الفصل الأول من الكتاب يتناول الباحث التغيرات الجذرية التي تحدث داخل حركة حماس منذ دخولها حلبة العمل السياسي عند مشاركتها في الانتخابات التشريعية في يناير 2006 . هذه التغيرات الجذرية عكست نفسها ليس فقط في تصريحات قياديها بل من خلال مواقف عملية للحركة فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل و تعاطيها مع الطروحات السياسية . حيث يوثق المؤلف عشرات التصريحات لقادة حماس سواء العلنية منها أو تلك التي تقال للوسطاء الغربيين والتي تتلخص في أن حركة حماس ستقبل بدولة فلسطينية على حدود 1967 . كذلك موافقة الحركة على الهدنة و التوقف عن العمليات التفجيرية و كذلك في المحاولات الجادة لحركة حماس و حكومتها التي تحكم قطاع غزة بشكل كامل منذ يونيو 2007 في الحفاظ على حالة الاستقرار و الهدوء النسبي رغم الخروقات التي تحدث من وقت لآخر. كذلك في محاولاتها الجدية في محاربة بروز قوى متطرفة في قطاع غزة .
كذلك يوثق المؤلف هذه الخلاصات من خلال تصريحات و مواقف عديدة موثقة لقادة حركة حماس منهم السيد خالد مشعل , رئيس المكتب السياسي و كذلك السيد محمود الرمحي, أمين عام المجلس التشريعي ” واللذان أكدا انه لا يجب النظر إلى ميثاق الحركة على الإطار المرجعي الفكري للحركة . مستندا على حديث السيد خالد مشعل مع شبكة BBC عام 2010 ” على العالم أن يقرأ حركة حماس من خلال مواقفها و تصرفاتها و ليس من خلال ميثاق وضع قبل عشرون عاما . لذا يتعجب المؤلف من ازدواجية التفكير الغربي الذي يستند عادة على أسانيد عملية و علمية حديثة في بناء خلاصاته البحثية في حين لا يطبق ذلك على حالة حركة حماس بالقول ” في الوقت الذي توقفت فيه حركة حماس عن الإشارة إلى ميثاقها الذي وضعتها 1988 و الذي ينص على إقامة دولة إسلامية على كافة الأراضي الفلسطينية ما زالت مراكز الأبحاث و المطابخ السياسة في الغرب تصر على قراءة حركة حماس من خلال هذا الميثاق و الذي هو أصبح مجرد وثيقة على الرف” . يخلص المؤلف بالقول : إن حركة حماس لم تقطع مع الماضي بشكل كامل , بل هي حركة تمر في مرحلة تغيير و تحول من حركة إلى قوة سياسية , صحيح أنها لم تستكمل بعد فهي مازالت تعيش حالة صراع و جدل بين ميراث الماضي و متطلبات الحاضر و المستقبل . إلا اننا سنشهد قريبا ” حماس نسخة ثانية ” كما يقول المؤلف .
حركة فتح
يستعرض المؤلف مسيرة حياة حركة فتح منذ تأسيسها في الكويت عام 1958 في جلسة سرية جمعت ثلاثة من قادتها المتوفون وهم ياسر عرفات , خليل الوزير و صلاح خلف حتى يومنا هذا مرورا بالعمليات الفدائية التي قادها المؤسس الراحل ياسر عرفات في عام 1967 من داخل فلسطين . و انتقالها للعمل في الأردن و لبنان و تونس ومن ثم عودتها للداخل عام 1994 مرة أخرى مع توقيع اتفاق السلام “أسلو” الذي جاء بعد سنوات من الانتفاضة الأولى و التي قادها شبان حركة فتح من الميدان في غزة و رام الله و جنين و نابلس …. يستعرض الكتاب المراحل التاريخية التي مرت بها حركة فتح منذ تأسيسها حيث رفعت و مارست : الكفاح المسلح ” إلى توقيعها على إتفاق السلام مع إسرائيل عام 1993 في اسلوا لتتحول من ثورة تحارب إلى حزب سياسي يقود سلطة . مما خلق حالة من صراع الهوية داخل حركة فتح : هل هي حركة أم سلطة أم حزبا يدير السلطة ..و كذلك صراعا بين شباب الحركة الذين قادوا الانتفاضة في الداخل و رجال الحرس القديم الذين أسسوا حركة فتح و أداروا الكفاح المسلح من الخارج . كذلك يرصد المؤلف أشكال الصراع الذي لم يتوقف يوما داخل الحركة منذ تأسيسها , أحد المحطات التاريخية لحركة فتح كانت المؤتمر السادس للحركة و الذي عقد في أغسطس من العام 2009 في مدينة بيت لحم بعد تأخير لمدة 16 عاما. وهو المؤتمر الأول للحركة الذي يعقد في غياب المؤسس ياسر عرفات وبحضور أكثر من 2300 عضو و حضور مكثف من المجتمع الدولي . أهمية المؤتمر لا تكمن في تلك الأسباب فقط بل تكمن في عدد و نوعية القضايا الني كانت مطروحة للبحث. يرصد الكتاب حالات النشوة و الانتصار التي مرت بها الحركة و حالات النكوص و التراجع أيضا مما جعل البعض يظن أن الحركة في حالة تراجع و موت سريري . يخلص المؤلف أن المؤتمر السادس لحركة فتح قد شكل ولادة جديدة للحركة و هو ما أطلق عليه ” إعادة ابتكار حركة فتح” .
السلطة الفلسطينية
يتساءل المؤلف ” هل يمكن بناء دولة في ظل الاحتلال ؟ و يجيب على ذلك السؤال بالقول إن فكرة تأسيس السلطة الفلسطينية تشير إلى تغيير إستراتيجي في أولويات العمل الكفاحي الفلسطيني الذي كان يركز على “التحرير قبل البناء” إلى بناء مؤسسات الدولة و وتحقيق التنمية مع استمرار النضال لإستكمال التحرير . يرصد المؤلف المحاولات الجادة التي تقوم بها السلطة الفلسطينية في مجال بناء مؤسسات الدولة و محاربة الفساد و تعزيز الشفافية و صياغة مجموعة القوانين و النظم اللازمة . يستعرض المؤلف بشكل تفصيلي برنامج بناء الدولة الذي يتبناه الرئيس محمود عباس و رئيس حكومته سلام فياض ضمن خطة بناء مؤسسات الدولة في عامين والتي تنتهي في سبتمبر القادم وذلك في مجال إصلاح الأجهزة الأمنية , محاربة الفساد و تعزيز مبادئ الشفافية و المحاسبية و تطوير البنية التحتية و تعزيز سيادة القانون و العدالة و إصلاح برامج الدعم الاجتماعي. حيث يتم ذلك بدعم كبير جدا من قبل المجتمع الدولي الذي يرى في سلام فياض نموذجاً جديداً في السياسة و الادارة الفلسطينية و نموذجاً يجب مساندته و دعمه . كذلك يتطرق المؤلف إلى الإشكاليات العديدة التي يواجهها د. سلام فياض سوءا من قبل المجتمع الفلسطيني , حركة فتح و معظم القوى السياسية الفلسطينية ، متسائلا نيابة عن الفلسطينيين : هل سلام فياض هو المسيح المنتظر للفلسطينيين أم هو قائد خائن لمبادئ الثورة و النضال الفلسطيني !!
المقاومة الشعبية .
يخصص المؤلف فصلاً خاصاً بالمقاومة السلمية مؤكداً أنها ليست جديدة على المجتمع الفلسطيني بل مارسها دائما عبر تاريخ نضاله الطويل ضد الاحتلال . إن المقاومة السلمية غير العنيفة قد تطورت لتشمل إضافة إلى مقاومتها للاحتلال مجالات جديدة مثل مقاومة الجدار و مقاطعة منتجات المستوطنات ، مؤكدا على ثلاث حقائق أساسية في هذا المجال :
أولاً : أن المقاومة السلمية تجد سنداً و دعماً لها من النظام الرسمي الفلسطيني و قواه السياسية بما فيه حركتي فتح و حماس .
ثانياً: أن الاحتلال الإسرائيلي يواجه المقاومة السلمية بأساليب قمعية عسكرية على الرغم من سلميتها .
ثالثاً: أن المقاومة السلمية تمثل إشكالية قانونية و عسكرية للمحتل وهي تسبب حرجاً شديداً لإسرائيل أمام المجتمع الإسرائيلي ذاته و المجتمع الدولي .
تقييم الدراسة:
إن السير باتجاه السلام يجب أن يكون من الطرفان حتى يتم إنجازه و ليس من طرف واحد كما يؤكد الكتاب… وكما فعل البريطانيين و الفرنسيين في بناء نفق المانش الذي يصل أوربا بالجزيرة البريطانية حيث بدء كل طرف الحفر من ناحيته حتي التقيا في منتصف الطريق , يجب على الإسرائيليين أن يدركوا بأن عليهم قطع نصف الطريق إن لم يكن أكثر . قد نختلف مع المؤلف و الخلاصات التي توصل لها , وقد يكون المؤلف قد تبنى الموقف الغربي من سياسات سلام فياض حيث لم يشر بوضوح إلى بعض التقارير الدولية المسندة التي قللت من أهمية و درجة إستدامة النهضة الاقتصادية التي تحدث في الضفة الغربية , حيث انها تجري دون غزة و دون القدس و دون منطقة الأغوار و تتركز بشكل واضح في منطقة رام الله و في مجال العقارات إلى حد كبير , كذلك لم يشر الكاتب إلى أداء حكومة فياض التي تتصف بالفردية حيث لا تعمل باقي حكومته على نفس القدر من الأداء , كذلك لم يشر إلى وجود وزراء في حكومته عليهم شبهات بالفساد حيث يفترض رفع الحصانة عنهم كي يبدأ التحقيق معهم . كذلك لم يشر الكتاب إلى فشل المفاوض الفلسطيني و السياسة الخارجية الفلسطينية في توضيح الموقف الفلسطيني في المحافل الدولية . كذلك فيما يتعلق بحركة فتح التي مازالت تعاني بشدة من إرث الماضي فلم تستطع بعد من إمتلاك ادوات التأثير على أداء السلطة و الحكومة , أو ممارسة ضغط كاف لتحقيق المصالحة مع حركة حماس , كذلك تقاعس مؤسسات السلطة و الحكومة عن دعم أبناء الحركة في قطاع غزة بشكل كبير . و حركة حماس التي ما زالت مواقفها تتأرجح بين إرث الماضي و متطلبات الحاضر و المستقبل . رغم ذلك يبقى الكتاب جديرا بالقراءة … ليس فقط من قبل الباحثين و المهتمين بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، بل من قبل المجتمع الإسرائيلي ذاته كي يطلع بشكل عميق عما يدور في المجتمع الفلسطيني من تغيير جوهري في المفاهيم و الأساليب و الخطاب السياسي , كذلك من قبل القيادة الفلسطينية و المفاوض الفلسطيني كي يتملك القدرة على مواجهة الخطاب الإسرائيلي الذي يضع اللوم دائما على الجانب الفلسطيني , كذلك من قبل الوسطاء الدوليين خاصة الأمريكيين الذين يساندون الموقف الإسرائيلي دون هوادة. الكتاب ثري بالمعلومات و التحليلات العميقة حيث يستند المؤلف على عشرات المراجع و التصريحات السياسية و المقابلات الشخصية , مما يعطي الكتاب درجة عالية من المصداقية . يمكن تلخيص الكتاب في مقولة جميلة للكاتب و الصحفي الألماني المشهور كورت توكلسوكي أوردها المؤلف في كتابه ” لقد تعودنا على القول ” لا ” سواء من منطلق الحب أو الكراهية أو التعاطف أو التفوق … لقد آن الأوان كي نقول ” نعم ” . فهل يقولها الإسرائيليون ؟