غزة لا تقبل أنصاف الحلول ولا تحترم أنصاف القادة! بقلم: م. تيسير محيسن

لم تحقق الثورة الفلسطينية المعاصرة أهدافها التي انطلقت من أجلها بعد. غير أنها تركت سجلاً حافلاً بالتضحيات والإنجازات المعنوية والسياسية. جاءت الانطلاقة 48 هذا العام في سياق تاريخي دينامي ومعقد؛ حيث يشهد الإقليم واحدة من عمليات التحول الكبرى في تاريخه باتجاه خارطة جديدة وانزياحات هائلة في موازين القوى سترسم معالم مستقبل الإقليم وشعوبه إلى أماد بعيدة. كما تأتي والشأن الفلسطيني منقسماً على نفسه، وملامح المشروع الوطني تذوي، وحالة الانكشاف والعجر تتجلى بأسطع صورها بعد قرار تاريخي في الأمم المتحدة لا نعرف كيف نستثمره ونبني عليه، وصمود أسطوري في وجه عدوان عاتي نفشل في ترجمته نصراً سياسياً حقيقياً ونساوم عليه “دولاً فاشلة” لم ترق بعد لمستوى ذاتية سياسية واعدة حملتها الملايين في الساحات والميادين. فلا نطمح إلى أكثر من فتح معبر رفع واستقبال وفود تضامنية، ولا نخطو خطوة واحدة تجاه ما يرقى إلى مستوى المسؤولية التاريخية، والضرورة الوطنية، والوعي السياسي السليم. فلا الرئيس استطاع أن يفرد جناح عباءته ليوقف الانزلاق السريع نحو الهاوية، ويحول دون نزيف غزة، قطرة قطرة، نحو جنوبها الصحراوي اللاهب، ولا حماس تجرأت أن تعمم نموذج غزة المفترض لتوقف نزيف الضفة، شبراً شبراً، باتجاه جوارها الصهيوني الغاصب. وفوق كل ذلك، جاءت الانطلاقة لتحمل رقماً/تاريخاً له في الذاكرة الفردية والجمعية دلالات لا تشير إلى النكبة بوصفها حدثاً فارقاً وحسب، بل لتحيي، من جديد، عذابات وشجون لم يتمكن الزمن من طمسها “لن نغفر ولن ننسى!” فهل يستغرب أحد، بعد كل ذلك، أن تعلن غزة الانطلاقة الثانية للثورة الفلسطينية في خروجها القيامي والمباغت. لا يمكن لأحد أن يفهم دلالات ما يحدث في غزة إلا بالعودة لفهم غزة ذاتها. ولعل الإسرائيليين، هم وحدهم، من قدم قراءات عميقة تسهم في جلو حقيقة هذا الشريط الضيق، وبنوا استناداً إلى ذلك سياساتهم تجاهها منذ البداية. هي آخر الصحراء وأول البحر، طريق حورس، عناق الشام وبلاد الكنانة. وفوق كل ذلك، هي أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين على وجه هذه الأرض، في خاصرة إسرائيل، حيث ينام اللاجئون ويستيقظون، منذ ستة عقود، على مرمى حجر وبصر من أرض أغتصبت ومنازل هدمت وذاكرة أستلبت، ينام الوجع معهم ويصحو، ليسلموا قيادهم، كل حين، لمن يتنطع لمداواة هذا الوجع. وبهذا المعنى شكلت غزة معضلة كبرى للإسرائيليين، لعنها الماكبيون القدامى وطردوها من رحمة الرب حيت امتنعت عليهم أسوارها المنيعة، وتمنى الماكبيون الجدد أن يبتلعها البحر حين انتفضت في وجه جيشهم الذي لا يقهر. بالمقابل، حملت سمة خاصة، مزيج من توقها للحرية ونزوعها للتمرد وإحساسها بالجرح الدائم، لتحمل ألقاباً ونياشين: سفينة نوح الفلسطينية، خندق الكفاح الوطني المتقدم، غزة أرض العزة، يقول الصحفي الإسرائيلي المعروف في وصفها “غزة ستبقى شوكة في حلق إسرائيل، لا تبتلع ولا تلفظ، لا تموت ولا تحيا”. أسقطت مشروع التوطين، وشكلت حاضنة لولادة وانطلاق حركات التحرير الوطني بأطيافها، شاغلت العدو بالتسلل وبالحجر والسكين والعمليات الاستشهادية وبالصاروخ ثم بالاندفاعات الجماهيرية نحو خطوط التماس، ودائماً بإقامة أنوية كيانية متعددة الأشكال وفي كل مراحل النضال. وهي دوماً غزة الحرة، المتمردة، الجريحة! عصية على الكسر والتطويع، تمردت حتى على نفسها وفاجأت كل من راهن على اختفاءها أو غرقها في البحر! تمردت على عبد الناصر في بعض سياساته، وعلى عرفات في بعض ممارسات سلطته وعلى أبو مازن في بعض مواقفه. وها هي اليوم تعلن تمردها على حماس، ودائماً بذات الطريقة: توجه الرسالة تلو الأخرى، فإن لم تتلق الإجابة تخرج، عفوياً وسلمياً، حرة ومتمردة ومجروحة! وفي معرض قراءتنا لهذا الحدث، نقول أنه ليس للأخ إسماعيل هنية أن يندم على إعطاءه الموافقة بعد وساطات وحوارات، بالرغم من معارضة البعض الحمساوي، فلقد لامس روح المدينة وأدرك عظمتها وقّدر أن غزة التي تستأذن اليوم قد لا تفعل في الغد. ولعل قراره الحكيم يرقى إلى مستوى القرارات التي تنم عن إحساس بالمسؤولية العالية في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ قضيتنا! وهو قرار يشبه إلى حد كبير، في مضمونه، قرار الرئيس أبو مازن بإجراء الانتخابات (2006) بالرغم من معارضة البعض الفتحاوي!.

ونقول للأخوة في حركة فتح، احذروا أن تخطأوا قراءة الرسالة وتحرفكم فرحة الخروج القيامي عن المسؤولية الوطنية العامة. غزة ليست مع أحد وليست ضد أحد! غزة تستعيد، معكم اليوم، بهاءها وجوهرها ووظيفتها. فلا تنسبوا النجاح الهائل سوى إلى غزة وأهلها. النجاح التكتيكي واللوجستي في تنظيم مهرجان بهذا الحجم دون أن يفضي إلى كارثة. والنجاح الأخلاقي في أن يجمد كل طرف رغبته في المناكفة، ويفتح عقله وصدره وقلبه للآخر المختلف وليس الآخر العدو. والنجاح السياسي في إيصال رسالة واضحة لكل من راهن على ذوبان المشروع الوطني وانسحاب غزة منه وانسحابها جزيرةً منفصلة في التيه والضياع. ونجاح إستراتيجي يتمثل في بقاء غزة معضلة مثلما كانت دوماً أمام المشروع الصهيوني. هو نجاح تتقاسمه حماس وفتح والتنظيمات الأخرى لأنه نجاح غزة وبالتالي نجاح لكل الفلسطينيين.

وإذا كان الأخ يحيى موسى، عضو المجلس التشريعي عن حركة حماس، قدم قراءة جريئة لهذا الخروج القيامي، مطالباً حركته باستخلاص العبر والدروس، فإنني أطالب قيادة فتح بأن تحذو حذو ذلك ولا تكتف “بالمسرحة السياسية” لحدث يتجاوز حدود السياسة. وفي تقديري، ما كان لهذا الحدث أن يتم، ولو اجتمعت جهود كل الفصائل، لولا الأسباب التالية، المرتبطة، كما أسلفنا بطبيعة غزة، أي معضلة الجغرافيا والديموغرافيا والسجال السيزيفي ضد المستحيل:

أولاً: في مساحتها الضيقة للغاية واكتظاظها بالأنفس المعذبة، وجدت غزة في الحرية ونشدانها سبيلاً لعلاج الروح. رفضت الكبت مهما كانت أسبابه ودوافعه وتبريراته والجهة التي تفرضه. كانت تصمت طويلاً، تئن وتشكو، فيخيل للبعض أنها قهرت واستكانت. وأسوأ أنواع الكبت، ما كان من ذوب قربى، أو كان فاقداً للتبرير الأخلاقي والوطني والسياسي. وأردأ أشكاله، ما صاحب ممارساته قدر من مهانة وإذلال. انتقمت غزة لحماس يوم أن تعرضت للتنكيل والتكميم والتكبيل، وخيل للبعض، آنذاك، أنها تنحاز لحماس على حساب الآخرين. وها هي تنتقم اليوم لفتح مما تعرضت له من تنكيل وتكميم وتكبيل، لتقول للجميع أنها إنما تعيد الاعتبار لذاتها الحرة والمتمردة، وهي لا تنحاز إلى أحد من أبناءها ضد الآخر، حتى وإن قرصت أذن أحدهم، أو صفعت آخر في وجهه، فهي تصحح أخطاء الأبناء وترشدهم إلى سواء السبيل.

ثانياً، غزة تمقت الظلم. ُظلمت طويلاً، في زمن الاحتلال بسرقة الموارد والسخرة في العمل وإعاقة التطور والنهضة، وبالتفاوت الكبير في زمن السلطة الفلسطينية في الدخول والفرص والقدرات. لكن “منظومة الظلم” في زمن الاحتلال اشتملت، عن قصد، على مجموعة من التقدمات، في سياق مشروع خبيث “تحسين ظروف حياة الفلسطينيين” من منظور اقتصادي، أعاق إلى حين الانتفاضة من أجل الكرامة الوطنية وليس بحثاً عن لقمة خبز. كما خفف من وطأ “منظومة الظلم”، في زمن السلطة الفلسطينية، الوعد الكبير، بالحرية والاستقلال، باستمرار جهود التفاوض من ناحية وعودة عمليات المقاومة من ناحية ثانية. أما في زمن الانقسام، فقد تعرت منظومة الظلم من كل ما يلطف من وقعه على الروح والبدن. ظلم مجرد وغير مبرر إلا بالوهم. حرمت غزة مما تستحق من رعاية وخدمات واهتمام بتفاصيل حياة أبناءها. وبدا أنها استمرأت الحياة على شريان يمر من أنفاق سرية ومعونات لا تصل دوماً إلى من يستحقها. فشلت سلطة حماس في ربط أكثر الناس بسلطتها من خلال تقديم الخدمات وإقرار السياسات، وبينما راهنت على شرعيتها الثورية التي تجددها كل مرة بأثمان باهضة وتكلفة عالية يدفها أهل غزة، لم تول شؤون هؤلاء الأهل اهتماماً كبيراً (حتى وإن كان بسبب الحصار، الشماعة التي لم تعد تقنع أحداً). واكتفت حكومة رام الله بدفع الرواتب بكثير من المهانة والإذلال والتهديد بقطعها، وتركت آلاف العقول حبيسة منازلها، لا تعمل ولا تجدد ولا تبدع ولا ترتقي وظيفياً. تعيش غزة منذ سنوات في ظلام حقيقي، أو في ضوء متقطع، تقَطع معه رتم الحياة الطبيعية في المنزل والعيادة والبقالة وديوان العائلة وفي المصنع ومحطة البنزين فاستعانت غزة على عتمتها بشموع أحرقت بعض أبناءها، وبمولدات أنهكت بيئتها، وسممت أجواءها. وبقيت غزة تجهل السبب الحقيقي ومن يقف وراء ذلك؟ فرام الله تتهم غزة، وغزة تتهم رام الله وإسرائيل تتهم الجميع وتضحك على الجميع.

لم تنتبه حكومة حماس، وهي تعفي نفسها من معظم المسؤولية، فلا رواتب تدفع ولا فواتير تسدد، فهناك من يدفع، أن في بعض سلوكها ما يخرج عن المألوف، بما في ذلك الحفاظ على سلطتها: فهو سلوك لم يطعم من جوع ولم يأمن من خوف. ارتفعت اثمان الأراضي والعقارات وتراكمت الأموال في أيدي تجار الأنفاق، وتكونت شريحة من الأثرياء الجدد. اشتدت وطأة جباية الرسوم والضرائب، فأثقلت الكواهل المرهقة أصلاً، فصدرت الأعذار والتبريرات دفاعاً عن الحكومة المحاصرة، بينما طولب المواطن (العامل الذي فقد عمله، والمزارع الذي تجرفت أرضه، وصاحب العمل الذي تهدم مصنعه) أن يكون مواطناً في جانب الواجبات فقط مع قليل من الحقوق. ونسي البعض  أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أوقف حداً من حدود الله في عام الرمادة (الجوع). فكيف، لهؤلاء، ألا يتوقعوا أن تخرج غزة المتمردة والحرة والمجروحة على الظلم حتى وإن صبرت عليه بعض الوقت؟

ثالثاً، بخروجها عن صمتها الطويل أرادت غزة أن توجه رسالة فصيحة وقوية ووطنية. لم يعد بمقدورها تقبل تزييف وعيها بلغو الكلام حتى لو ارتفعت عقائر القائلين به، وبعنجيهات الخطب حتى لو بُحّت حناجر الخطباء. كابدت غزة سنوات العذاب وهي تقاوم ولم تستسلم. ومنذ الانتفاضة الثانية تعرضت لأبشع عملية تدمير منهجي من قبل الاحتلال، واكبها أفظع عمليات تدمير ذاتي عبر الاقتتال والفلتان الأمني، لتعيش أسوأ الكوابيس تحت وطأة ضربات الطيران الساحقة، وهي تحسب كل ذلك صبراً على طريق الحرية والاستقلال. وإذا بالخطباء يعدون بفتح معبر رفح، وبالمناضلين يهللون للوصاية المصرية الجديدة، وتلفتت غزة فإذا بالقدس تضيع والضفة الغربية تقضم وبالمنظمة تذوي والسلطة تنهار والوحدة تزداد انشراخاً، وبيت حانون تزداد فقراً وأرضها بواراً، بينما سديروت تعود كل مرة لتمارس حياتها كأن شيئاً لم يحدث، فمن الذي انتصر وعلى أي شيء؟. ما هو الهدف السياسي في إقليم يتفكك وأحلاف تبنى على أسس طائفية، ودول تصبح فاشلة وجيوش تغرق في لجى الدم المسفوح وجيوش أخرى يعاد بناؤها وفق العقيدة الأمنية الأمريكية، وجيوش ثالثة تتحول إلى شرطة. إسرائيل تدلف إلى الإقليم من أوسع أبوابه، طرفاً فاعلاً ينتظر نصيبه من الكعكة، وإيران تتربص وتركيا تغضب لغزة ولا تحرك ساكناً تجاه ما يحدث في الضفة والقدس. غزة، الخارجة لتوها من عدوان واجهته بصبرها وصمودها وتضحيات أبناءها، وهي تاريخ المقاومة ومجدها وأثمانها، تخرج، ويللمفارقة، باللون الأصفر لتعلن إنحيازها لخط الواقعية السياسية الذي تتبناه حتى قيادة مصر الإخوانية. ليس لغزة أن تحمل أعباء الأمة وحدها، ويجب ألا تتاح لهذه الأمة فرصة البراءة من دمنا، فالزيارات التضامنية ذات الطابع الإنساني تزيدها رهقا. ولذلك،  تعلن إنحيازها للفكرة الأهم في مواجهة المشروع الصهيوني الغاشم: فضحه أخلاقياً وسياسياً وقانونياً، المحافظة على الوجود على هذه الأرض وتعزيز التمسك بها والصمود عليها، مشاغلة العدو كلما كان ذلك ممكناً دون أن تدفعه لحماقة الانتقام وهو قادر عليها، ودون أن تغطي إعلامياً وأخلاقياً على ممارساته العدوانية والإجرامية، ودون أن تمنح الآخرين، عرباً وعجماً براءة مجانية من دمنا عبر الزيارات التضامنية الاستعراضية التي لا تختلف عن جمع التبرعات في أي مدينة عربية؟ ودون أن تمنح آلة الاحتلال المجنونة الذريعة والحجة؟ ومن أراد غير ذلك قليقل لنا كيف! فهل يفيد مثلاً توريط مصر الآن في حرب هي لا تستطيع خوض غمارها؟ وماذا إذا وصل التصعيد حداً يدفع قادة العدو إلى إيقاع نكبة أخرى؟ هل يؤمن أحد حقاً أن بضعة صواريخ قد تمنع إسرائيل عن مخططاتها الجهنيمة وهي التي تلوّح بحرب ضد إيران القوية؟

غزة احتملت العدوان لكنها لم تحتمل القراءات الخاطئة له. فقد بدا واضحاً لها هذه المرة طبيعة المؤامرة والمخطط الإسرائيلي، واكتشفت مدى الهاجس الذي تعيشه مصر، وقد انصبت الأسئلة على الأستاذ خالد مشعل من الصحافة المصرية عن حقيقة ” الوطن البديل” لتلحقها أسئلة أردنية قلقة عن حقيقة الكونفدرالية، ونسي الجميع أن ثمة حل إسرائيلي يسميه جيورا آيلاند “الحل الإقليمي” على أنقاض حل الدولتين. انتبهت سفينة نوح الفلسطينية، فخرجت لتذّكر العالم أن انتفاضتها الجماهيرية الأولى، حيث كانت “أقدامها في الشجاعية ورأسها على شاطئ البحر” حسب شاعر غزة الكبير وأحد قادة الهبة، المرحوم معين بسيسو، إنما كانت ضد مخطط التوطين في سيناء.

لهذه الأسباب خرجت غزة، ليس انتصاراً لفتح على حماس، بل انتصاراً لمشروع الوطنية الفلسطينية (وفي القلب منه فتح وحماس والآخرون)، في زمن العبور الكبير إلى مستقبل الإقليم المتحول. انبثاق ذاتية سياسية فلسطينية لا علاقة لها بالألوان الصفراء والخضراء، وإنما بمزيج الطيف الذي يمثله علم الثورة وعلم فلسطين، ولا علاقة لها بالانحيازات الأيديولوجية أو الحسابات الفئوية أو الرهانات الإقليمية، وإنما لتعيد الأشياء إلى سيرتها الأولى دون رتوش. هذا الخروج، لمن لا يعرف غزة، محاولة أولى لإعادة تعريف القضية الفلسطينية، واستعادة جوهرها المفقود في زحمة الانقسامات والانحيازات والحسابات الصغيرة. وإذا كانت إسرائيل في عدوانها الأخير أرادت أن تحجز، عبر البوابة المصرية والرعاية الأمريكية، مقعداً لها إلى طاولة المفاوضات حول مصير الإقليم، وتقصي الشعب الفلسطيني المقسوم والمهزوم بحسبها، فإذا بضمير العالم المعّبر عنه بقرار تاريخي من الجمعية العامة، مصحوباً بانتفاضة فلسطينية خالصة، بدأت هذه المرة في الضفة، واستكملت في غزة بهذا الحشد المليوني غير المسبوق، يحجز مقعد فلسطين ليس إلى طاولة مفاوضات أخرى، بل جزءاً أساسياً من خارطة الإقليم الجديدة.

على الجميع أن يقلق: إذا صخبت غزة أو صمتت. وعلى القيادة الفلسطينية، من كل لون، أن تقلق أكثر إن هي لم تفهم رسالة غزة. غزة تنتظر وضع نهاية لتجرع مرارة الانقسام، وكبت الحرية وسرقة الصوت وتزوير الإرادة وتوالي “الانتصارات” التي تزيدها حصاراً وعتمة وانزلاقاً نحو الجنوب، ويفقدها “الخواء الوطني” الذي عاشته ردحاً من الزمن، قدرتها على الصبر. كان لها أن تأمركم جميعاً من بين الحشد أن تأتوا من رام الله ومن الدوحة لتعلنوا نهاية الانقسام، لكنها تعول على حصافتكم وتمهلكم الوقت الكافي لترجمة مع وقعتم عليه في القاهرة إلى خطوات عملية وسريعة. فإن لم تفعلوها سوياً، حينها تناشدك، يا سيادة الرئيس محمود عباس، أن تتحلي بالشجاعة والحكمة والمسؤولية فتسرع في استثمار الصمود البطولي والقرار التاريخي والخروج القيامي والهبة الرائعة في الضفة، لفرض الوحدة الوطنية فرضا. فإن لم تفعل، فغزة تناديك يا أبو الوليد، أن أوقف نزيف هذا الصمود الذي يسجل في  حساب رؤساء وملوك لا يملكون من أمرهم رشدا، ولم يقدموا لفلسطين وشعبها ما يجب أن يقدموه، وتدعوك فوراً للمضي قدماً نحو انتزاع لواء القيادة بالكامل، بشراكة حقيقية مع فتح الجديدة والآخرين، لتوقف الانزلاق وتعيد الالتصاق وتعمم نموذج المقاومة الذي تفترض أنه سيعيد إلى الأرض بهاءها. فغزة، نيابة عن فلسطين كلها، لا ترغب في أنصاف الحلول كما لا يعجبها أنصاف القادة!

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى