رغم كل مايحدث في الاقليم، مازال بالامكان إستعادة زمام المبادرة والفعل فلسطينياً
بقلم: عمر شعبان
تتسارع خطوات التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل. قد تتوسع المواقف الرسمية العربية التي تعلن تطبيعها بما يخدم المحاولــة الحثيثة للولايات المتحدة التي تجتهد لصـــيغة ملائمـــة تسمح بدمج إســـرائيل في المنطقـــة العربية أولا و العالم الاسلامي لاحقا، ليس وفق التاريخ الحضاري والثقافي والديني، بل حسب سمات الجغرافية الاقتصادية ونظـام السـوق العالميـة و مفهوم العلاقات و المصالح الدولية، كما تهدف إلى خلـق نـواة سـوق شـرق أوسـطية تتوسـع بالتـدريج تكون فيها إسـرائيل هي المركز بما يعظم من دورهـا كقـوة جاذبـة ومتطورة اقتصـادياً وتكنولوجياً وأمنياً ومدنياً. وقد تراكمت عوامل و ظروف عديدة لما يحدث في الاقليم و منها:
تحولات الاقليم عقب ثورات الربيع العربي:
أصبح هناك انحرافا لمصطلح “عملية السلام في الشرق الأوسط” الذي يشير تقليديًّا إلى تسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. والحقيقة أن كل التحركات والمواقف التي بدأت بعد الربيع العربي ونمو الإرهاب في المنطقة غدت بمثابة نافذة فرص لإسرائيل لتوسيع حدودها وفرض أجندتها على المنطقة، وفرض نفسها فاعلًا رئيسيًّا في الإقليم بمساندة الولايات المتحدة، وحليفاً لدول الخليج التي تعتقد أن التطبيع مع إسرائيل يساعدها في حماية أمنها و يحقق مزيدا من الازدهار الاقتصادي و حماية من النفوذ الإيراني. ففي أغسطس 2019، صرح وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بأن إسرائيل جزء من “التحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية وضمان سلامة الممرات البحرية”، الذي أنشأته الولايات المتحدة، ويضم السعودية والإمارات والبحرين وبريطانيا وإستراليا.
تراجع أولوية القضية الفلسطينية على المستويات الرسمية والشعبية:-
لا شك في أن بعض دول المنطقة التي اكتوت بنيران الصراعات ما بعد الربيع العربي، والصراعات الطائفية قد أصابها ضرر بالغ. لكن بالنظر إلى ظروف القضية الفلسطينية- حيث يوجد احتلال إسرائيلي مباشر- فإن الكارثة الواقعة على القضية الفلسطينية أكثر فداحة وأبعد مدى. فكل تراجع على الطرف العربي -هنا- يعني تقدما للطرف الإسرائيلي. فقد أصبحت الانظمة الرسمية وشعوبها أكثر انشغالاً بقضايا “أكثر تعقيداً” كالصراع في ليبيا والعراق وسوريا…الخ؛ أما القوى الإقليمية الكبرى( كإيران وتركيا) والعربية، فقد أدى انخراطهم المباشر في الصراعات الجارية في المنطقة، إلى تراجع أولوية القضية الفلسطينية بالنسبة لها بشكل كبير. ولا يقف الأمر عند الجهات الرسمية، بل حتى على المستوى الشعبي، فقد تراجع مستوى التفاعل الجماهيري مع أحداث القضية وتطوراتها بشكل غير مسبوق. لذا فإن النظرية القائلة بأن “التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية سيقود المنطقة إلى الاستقرار” أضحت غير مقنعة لكثير من الفاعلين؛ فالمنطقة لا تبدو مقبلة على الاستقرار بغض النظر عن اتجاه الأحداث في فلسطين.
فشل الفلسطينيين في إدارة شؤونهم و في تطوير أدواتهم لتواكب تقلبات المنطقة:-
بمراجعة مقتضبة لتاريخ الانقسام ومحاولات الاستنهاض ورأب الصدع (المصالحة)؛ يتضح أن الجهود كلها لم تحقق نجاحات تُّذكر؛ لتعطي دافعاً للشعوب العربية للالتفاف عن الحقوق الفلسطينية. لا سيما وأن الحصول على تأييد ومساندة الجماهير العربية عاملاً أساسيا للتعبئة العامة التي تحول دون حياد القيادات السياسية ورؤساء الدول العربية عن أي مواقف تنتقص من الحقوق الفلسطينية. لقد تراكمت أخطاء إدارة الازمات الفلسطينية في الحكم وفي معالجة الانقسام الداخلي الذي دمر المشروع الوطني. فقد ثبت عجز القوى السياسية و الاسلامية عن تبني المشاريع الإصلاحية اللازمة للمحافظة على ما تبقى من الحالة الوطنية. لقد فشلت القيادات السياسية والفئات المثقفة الحزبية في ترشيد حالة السخط الشعبي الفلسطيني، وتشكيل خطاب وطني يحقق المصلحة العامة. إن الفشل في إدارة القضية من قبل المنظومة السياسية الفلسطينية فاقم من الازمة الفلسطينية وجعلها يتيمة دون مساندة حتى ممن يجب عليهم حماية و مساندة الموقف الفلسطيني.
ما الذي يمكن فعله لإحياء القضية مرة أخرى؟
في إطار العوامل السابقة، تصبح إمكانية وقف أو مقاومة التطبيع شبه مستحيلة، لأن أسباب الخلل غير معزولة عن مشهد التطبيع، وتتأثر به، بل وفي بعض الاحيان تشكل انعكاساً مباشراً له. لذلك فان الارتقاء بمفاهيم وأساليب مقاومة التطبيع يرتكز بشكل أساسي على الارتقاء بالمشهد السياسي برمته، فما يستطيع فعله بضعة أفراد يتحركون بدوافع ذاتية ويمتلكون الشجاعة والوضوح والتأثير ولا يمتلكون القرار المؤسسي والظهر التنظيمي هو ابقاء الحالة حية فقط، دون أن يستطيعوا تفعيلها أو تطويرها أو نقلها نوعياً الى مستويات متقدمة. لذلك إن الارتقاء المطلوب يعتمد على التغير البنيوي في المشهد السياسي المعارض الفلسطيني والعربي، على المديين القصير والمتوسط.
على المدى القصير:-
إن السرعة في إعادة ترميم العلاقة مع الشعوب العربية بشكلها الحقيقي واستخدام أساليب مناصرة للقضية، بعيدة عن الشتم والتخوين للشعوب العربية التي ما زالت ترفض التطبيع تعتبر سلاحًا استراتيجيًا للفلسطينيين. كل موسم جديد من مواسم التطبيع، وتحسّسا للدور الفردي تجاه هذه القضية، نجد شعور المواطن العربي بالعجز تجاه ما يراه أمامه. وعلى الرغم من أن هذا حقيقي، إلا أنه غير دقيق بالمطلق، فالتدخل هنا نسبي، والمرء يستطيع أن يتدخل قدر امكانياته في المساهمة بالتغيير، وهنا يأتي دور الفلسطينيين والاحزاب الفلسطينية من خلال حملاتهم واتصالاتهم والتنظير، بأن الصمت ليس حلا، والانغماس بشعور الخذلان والعجز غالبا لا يؤدّي إلى شيء.ل لا سيما أن التطبيع يعني تبديد الانطباع الفطري للشعوب العربية بأن العداء لها ليس في محله، بل هو ناتج عن فهم مغلوط لعملية الصراع مع الفلسطينيين، الذين هم سبقوهم للتفاهمات وتوقيع اتفاقيات سلام ( وهذه فرضية مشوهة، حيث أن علاقة اتصال الفلسطينيين مع اسرائيل تأتي من باب الاتصال من أجل الاستقلال وفك الارتباط، وليس من باب توثيق علاقات لدولة مستقلة. كما أن غاية اسرائيل من التطبيع، هو تجاوز القضية الفلسطينية دون حلها وتحويل المعركة من معركة بين العرب وإسرائيل، إلى معركة بين الفلسطينيين والعرب.
على المدى المتوسط:-
من المتوقع أن يستمر التدهور ببطيء ما لم تتخذ المؤسسات المعنية (بداية من المنظمة، والأحزاب والمعارضة منها، وليس انتهاء بالنقابات والمجتمع المدني) مبادرات نوعية لوقف التدهور تجاه الشعوب العربية، واعتبار مقاومة التطبيع حالة نضالية متطورة. لابد من بلورة خطاب وحدوي قادر على إعادة المفاهيم والمسؤولية العربية الي نصابها التاريخي، من خلال التركيز على أن هناك مسؤولية عربية وحقوقية وقانونية وسياسية تجاه فلسطين، وفعليًّا ملتزمة هذه الدول أمام بها أمام شعوبها.
وإن حقيقة أن العديد من الأنظمة العربية كانت و مازالت تستخدم القضية الفلسطينية لخدمة مصالحها هي ، فهذا يعني أنها قضية مركزية في وجدان كل عربي، وباختصار فإن القضية الفلسطينية تستطيع أن تجلب لك ملايين الأصوات في صناديق الاقتراع، وهذا فيه مصلحة مهمة لأي حزب أو نظام يريد أن يكتسب شرعية. رغم كل ما يحدث، فإن عدالة القضية الفلسطينية تشكل عنصرا هاما في الضمير العربي و الدولي الرسمي و الشعبي.