التمويل الدولي بين التوظيف السياسي والانساني
بقلم عمر شعبان
قضية التمويل الدولي المشروط وغير المشروط قديمة نشأت مع بداية علاقات التبادل التجاري والثقافي بين شعوب الأرض. كان لأحداث 11 سبتمبر الأثر الأكبر في تشديد الرقابة و المتابعة على التمويل من الشمال لدول وشعوب الجنوب خاصة، حيث بدأت الدول المانحة في تطبيق سياسة ” توظيف المنح و القروض بهدف منع وصولها لمن تعتبرهم أعدائها و بهدف التأثير في العقل الجمعي للشعوب المتلقية. يمكن القول أنه لا تمويل من طرف لآخر دون شروط. بعض هذه الشروط تصب في صالح الاستخدام الافضل للتمويل، في حين أن بعض الشروط تهدف إلى التأثير في تغيير ثقافة المتلقي و تغيير موقفه تجاه قضايا و مفاهيم معينة.
مصادر التمويل:-
إن العلاقة بين مصادر التمويل ومنافذ التلقي ليست خطية، كما يبدو للوهلة الأولى بل هي متشابكة ومتداخلة. فالحكومات، وهي أكبر الممولين عادة ما تمول جميع منافذ التلقي ” حكومة و منظمات اهلية و قطاع خاص و أفراد”. في حين أن المنظمات الأهلية لا تمول الحكومات عادة، أما القطاع الخاص الثري والشركات عابرة للقارات يمكن أن تمول ليس فقط المنظمات الأهلية والقطاع الخاص والأفراد بل الحكومات أيضا بهدف تحقيق مصالح خاصة بها.
شروط التمويل:-
بالتأكيد لا يوجد تمويل دون شروط, فمن يملك المال يملك القرار, قد يكون من حق الممول أن يفرض شروطه! لكن من الخطأ وضع جميع الشروط في سلة واحدة، فبعض الشروط تهدف إلى ضمان التنفيذ السليم للمشروع و تعزيز معايير الشفافية والمحاسبية و ضمان وصول الخدمة للمستفيد المقصود، ومنها ما يهدف إلى تعديل وتغيير قيم المجتمع بما يتطابق مع ثقافة الممول، والتي ليست بالضرورة أن تكون ضارة أو منافية لقيم المجتمع المتلقي. يمكن تجميع الشروط التي يمكن أن يفرضها أي ممول في المجموعات التالية:
1. اشتراطات إدارية ومنهجية:-
وهي تلك التي تتمثل في فرض نموذج معين لكتابة مقترح المشروع, منهجية التوظيف, استخدام نماذج معينة, وهي ليست شروطا بالمعنى السياسي التي تمس سيادة المتلقي، بل تهدف إلة خلق لغة مشتركة بين الممول والمتلقي بما يوحد طريقة ونظام العمل. وعادة ما تولي المؤسسات الدولية اهتماما ضروريا بهذه الجوانب الادراية.
2. اشتراطات فنية:-
يقصد بها تلك الشروط التي يطلب الممول أن تتواجد في السلعة أو الخدمة المقدمة للمستفيد النهائي. وهي عادة ما تكون شروط علمية, كأن يشترط الممول أن تكون روض الأطفال ذات مساحة مناسبة حسب المواصفات أو تحديد الالوان المستخدمة في الدهان حيث أنها ملائمة أكثر لأجواء تعلم الأطفال. منع استخدام المبيدات الكيميائية في الزراعة, أو تغليف المنتج بشكل محدد.. إلخ.
3. اشتراطات أخرى:-
وهي جميع الشروط الاخرى غير المندرجة ضمن المجموعتين السابقتين، وهي التي يمكن أن يدور حولها نقاش هادئ أو حاد, هذه الشروط يمكن تفسيرها مبدئيا على إنها غير موضوعية, ينظر على أن مساس بالسيادة و الاستقلالية للجهة المتلقية. من هذه الشروط على سبيل المثال لا الحصر والتي يمكن أن نختلف على استخلاص الهدف منها :-
– تخصيص و تحديد المستفيدين عددا ونوعا من البرنامج الممول بناء على معايير قد تبدو للبعض أنها غير موضوعية وقد تكون فعلا كذلك مثل: اللون والنوع و العمر والعرق الجغرافيا والانتماء السياسي.
– تحديد مجالات ومناطق للعمل دون غيرها : والتي تعلن المؤسسة الجهة الممولة أنها تمول مشاريع و أنشطة ما دون غيرها. مثل أن يتم منع تمويل أنشطة ومشاريع في مناطق Cفي محافظات الضفة الغربية. أو منع إقامة مشروعات بنية تحتية في مخيمات اللاجئين.
– إشتراط التعاون مع مؤسسات دولية تعمل في نفس المجال و من جنسية الجهات المانحة و إشتراط الشراكة مع مؤسسات إسرائيلية أو إشتراط الاستعانة بخبراء من الدول الممولة مما يستنفذ نسبة كبيرة من الموازنات الممنوحة .
– عدم أخذ المانح أولويات التنمية الوطنية في الاعتبار وفرض مشاريع وأنشطة، قد تبدو للبعض أقل أهمية من إحتياجات أخرى كمشاريع تعزيز مفاهيم الديموقراطية ومفاهيم الحكم الصالح ودعم المرأة.
ملاحظات هامة تستوجب مزيدا من النقاش :-
– إن جميع الممولين أفرادا وحكومات ومؤسسات وشركات لديها شروطها الخاصة بها. بعضهم يصرح بها كما في وثيقة الوكالة الامريكية للتنمية الدولية, والآخر لا يصرح بها كالتمويل العربي والإسلامي بشكل خاص الذي يفرض أجندته الخاصة فيما يتعلق بالأشخاص المتلقين للتمويل. فإذا كان التمويل الأوروبي والامريكيي ذي منهجية واضحة قد لانوافق عليها، فإن التمويل العربي والإسلامي يعتمد أكثر على حيثية الأشخاص أو المؤسسات المتلقية وعلاقته بهم!! حتى التمويل المحلي سواء من أفراد أو هيئات عادة ما يكون لديها شروطا خاصة بها ، كأن يتم تمويل حفل جوائز لطلبة الثانوية من قبل شركة محلية محتكرة و فاسدة مشترطة تنظيم الحفل تحت رعايتها وإشرافها بهدف شرعنة أموالها و شراء رضا المجتمع.
– إن التمويل المشروط الموجه للحكومات بصفتها الجهة الحاكمة عادة ما يستوجب تفاهمات سياسية تفوق في خطورتها التمويل الموجه للمؤسسات الأهلية !!
– أحد أسباب الخلاف حول التمويل الدولي هو عدم تحديد الاولويات لدى الجهات المتلقية، فكيف يمكن الاتفاق بين شرائح المجتمع الواحد على أن مكافحة الفقر أسبق من تعزيز الديموقراطية! وما العمل إذا آمن جزء من هذا المجتمع أن تشجيع المسرح يجب أن يستحوذ على إهتمام الممول!, ثم عن أي مسرح نقصد؟ هل هو ذلك المسرح الليبرالي أم القومي أم العربي, أم ذلك الإسلامي.الخ.. وكيف نوفق بين برنامج ممول يشترط الاختلاط بين الجنسين وبرنامج ممول آخر يشترط الفصل بينهما!
– يقتصر التمويل العربي والإسلامي في غالبيته على تمويل مساعدات الاغاثة وتوزيع الطرود الغذائية ومشروعات البناء، ونادرا ما نجد تمويلا عربيا للمسرح و الثقافة وتعزيز الدمقرطة وتطوير الدراسات البحثية والتطوير. أليس ذلك تمويلا مشروطا بثقافة الممول! هل يمكن لحكومة غير منتخبة أن تمول برنامجا لتعزيز الديموقراطية والانتخابات الديموقراطية و تعزيز دور المجتمع الاهلي!
– إن بعض ” شروط التمويل” يتم صياغتها بالتعاون بين الممول والجهة المتلقية في المراحل الأولى لتصميم فكرة المشروع. وهنا تقع مسؤولية كبيرة على الجهة المتلقية في تحديد إحتياجات وأولويات التنمية في المجتمع المحلي بما يضمن تناسق شروط التمويل مع متطلبات نجاح عملية تنفيذ المشروع .
– إن بعض هذه الشروط يكون مصاغا على شكل نصائح وتوصيات وهي ليست ملزمة للجهة المتلقية. لكن ضعف الجهة المتلقية في الجوانب المالية والإدارية يجعلها عاجزة عن مناقشة الممول في هذه الشروط وبالتالي تصبح كأنها شروطا مفروضة لا مناص من تنفيذها.
– يجب التأكيد على أن بعض التمويل بغض النظر عن مصدره ليس بريئا، بحيث يتم توظيفه للتأثير في ثقافة المتلقي للتمويل. يوجد تمويل يهدف إلى خلق وتعميق ثقافة التسول والاقتصاد الريعي وجعل الافراد إتكاليين وكسولين وغير مبدعين. إلا أنه بالإمكان توظيف التمويل المشروط بشكل يخدم المجتمع فعلا ولا يحقق الأهداف الخفية للممول. ذلك يعتمد كثيرا على مكامن القوة الداخلية لأي مجتمع وهي:-
- قوة الحكومة الرسمية ومدى جاهزيتها ومدى دعمها للمبادرات الوطنية المبدعة و التوزيع العادل للموارد.
- وجود خطة تنموية يشارك فيها قطاعات المجتمع الثلاث : الحكومي و الاهلي و الخاص.
- مدى كفاءة الأشخاص والمؤسسات المنفذة.
- تطبيق أسس ومعايير الشفافية والرقابة والمكاشفة.