الورقة السويسرية..خارطة طريق لحل أحد أهم تداعيات الانقسام الفلسطيني وتحقيق الوحدة الوطنية.

عمر شعبان

مؤسسة بال ثينك للدراسات الاستراتيجية

أطلق مصطلح “الورقة السويسرية” على خارطة الطريق المقترحة لحل أحد أهم تداعيات الانقسام، وأحد المشاكل التي كانت دائماً محل خلاف بين حركة حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية وهو ملف الموظفين الذي نتج عن الانقسام الداخلي في العام 2007. قام على إعدادها مؤسسة بال ثينك للدراسات الاستراتيجية ومؤسسة سويس بيس السويسرية وبرنامج الامم المتحدة الانمائي وبتسهيل ومساندة وبدعم من الحكومة السويسرية، ممثلة بسفيرها لدى السلطة الفلسطينية في رام الله.

خارطة الطريق “الورقة السويسرية” تم العمل عليها وبشكل هادئ بين غزة ورام الله في السنوات من 2012 وتواصلت لما بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في 2014. خارطة الطريق” الورقة السويسرية” هي المنتج الوحيد الذي يعالج هذا الملف الشائك بشكل مهني متكامل. تم الاشارة إليها والاستفادة مما تضمنته في جولات المصالحة بين حماس والسلطة الفلسطينية وآخرها اتفاق أكتوبر 2017 في القاهرة. مع تجدد الحديث عن الانتخابات التشريعية المقررة في 22 مايو وتأجيل معالجة ملف الموظفين إلى الحكومة الفلسطينية المقرر تشكيلها بعد الانتخابات، لذلك فقد يكون من المفيد وضع خارطة الطريق “الورقة السويسرية” للنقاش على أجندة الحكومة القادمة.

توصيف المشكلة:

مع سيطرة حركة حماس على مقاليد الحكم في قطاع غزة في يونيو 2007، أصدرت السلطة الفلسطينية في رام الله مرسوماً بتاريخ 27 أغسطس 2007 تضمن تعليمات لموظفيها في قطاع غزة بعدم المداومة تحت حكومة حماس التي أعلن الرئيس أبو مازن عن إقالتها. حيث طالبت الحكومة الفلسطينية برئاسة د. سلام فياض في ذلك الوقت وإتحاد المعلمين وغيرها من النقابات من موظفي القطاع العام في قطاع غزة بالجلوس في بيوتهم مع مواصلة دفع مرتباتهم من الحكومة الفلسطينية في رام الله. هذا القرار وضع موظفي القطاع العام الفلسطيني في موقف لا يحسدون عليه، منهم من التزم بالقرار بالجلوس في البيت, فئة ثانية لم تلتزم به لأسباب متعددة منها شخصية ومهنية، مما دفع الحكومة في رام الله إلى قطع مرتباتهم لعدم الالتزام بالقرار، فئة ثالثة تمكنت من الحصول على إذن من الحكومة في رام الله على مواصلة العمل دون قطع مرتبه. قدر عدد موظفي القطاع العام المدني في ذلك الوقت ب 35,000 موظف، معظمهم في قطاعي التعليم والصحة.  أدى هذا القرار والذي جاء قبيل بدء الموسم الدراسي في سبتمبر 2007 إلى إرباك شديد في جميع مناحي الحياة في قطاع خاصة، خاصة في القطاعات الهامة مثل: – الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية و قضايا الاسرة وغيرها. أدركت حكومة غزة المقالة “كما كان يطلق عليها في حينه” أنها أمام تحد كبير يتمثل في منع انهيار الخدمات الاساسية خاصة أنها لم تكن جاهزة لمثل هذا الموقف. لذا  قامت حكومة غزة المقالة بتوظيف آلاف الموظفين الجدد، خاصة في قطاعي الصحة والتعليم لسد الفراغ، حيث لوحظ أن الكثير ممن تم توظيفهم بشكل سريع لم يكن مؤهل بالقدر المطلوب. واصل بعض موظفي حكومة السلطة الفلسطينية العمل مع حكومة حماس مع ضمان ذات المرتب والدرجة الوظيفية (قطعت مرتباتهم لعدم الالتزام بقرار الحكومة). في حين تمكن بعض موظفي القطاع العام في السلطة الفلسطينية من العودة للعمل بإذن من الحكومة في رام الله. مع نهاية عام 2013 كان الوضع في القطاع العام بقطاع غزة يتضمن الفئات التالية: –

  • موظفون جدد يعملون مع حكومة غزة ويتقاضون مرتباتهم منها.
  • موظفو سلطة فلسطينية، قطعت مرتباتهم لعدم إلتزامهم ويعملون مع حكومة غزة ويتقاضون مرتباتهم منها.
  • موظفو سلطة فلسطينية (قطاعي التعليم والصحة (حوالي 10,000 موظف ) واصلوا العمل مع حكومة غزة ويتقاضون مرتباتهم من الحكومة في رام الله.
  • موظفو سلطة فلسطينية التزموا بالقرار بالجلوس في بيوتهم ويتقاضون مرتباتهم من الحكومة الفلسطينية في رام الله.

هذه الاحصائيات تغيرت مع الوقت حيث بدأ آلاف الموظفين الذي قاطعوا العمل مع حكومة غزة المقالة بداية في العودة التدريجية للعمل.  جاء ذلك مع بروز الحاجة لهم (الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية والدفاع المدني) خاصة في أوقات الحروب الثلاث مع قطاع غزة. حيث طلب الرئيس محمود عباس على إثر حرب 2008-2009 من جمیع العاملین العودة إلى عملهم، إلا أن العودة كانت جزئية، مما أبقى المشكلة دون حل. من ناحية ثانية وبسبب التراجع الشديد في الايرادات المالية لحكومة غزة بدأ من سبتمبر 2013، عجزت حكومة غزة عن دفع كامل مرتبات موظفيها، حيث صار موظف حكومة غزة يتلق نسبة 40%-50% من راتبه وبشكل غير منتظم.

خارطة الطريقالجهود السويسرية:

  • قامت فلسفة خارطة الطريق “الورقة السويسرية” على مبدأ هام أساسي وهو أن تداعيات الانقسام متعددة ومتشابكة. ومن الصعب معالجة تلك التداعيات دفعة واحدة، بات من الضروري والمنطق إتباع التدرج والمراحلية في المعالجة. كذلك لابد من العمل على بناء الثقة بين طرفي الانقسام من خلال تحقيق اختراق في أحد أهم الملفات الاشكالية. كان اختيار ملف الموظفين موفقا جدا لأنه يلامس هموم وقضايا آلاف الموظفين وعائلاتهم مما سيخلق تأييداً كبيراً لعملية المصالحة الشاملة لاحقا.
  • سويسرا دولة محايدة وهي ليست عضوا في الاتحاد الاوروبي، لذا فهي متحررة من شروط الرباعية التي تمنع الدول الغربية من التواصل مع حكومة حماس. هذا الوضع اتاح لسويسرا التواصل بحرية مع جميع الاطراف. سويسرا راكمت خبرة مرموقة في تحقيق المصالحات في العديد من مناطق الصراع في مثل: – كولومبيا، وأندونيسيا، والسودان، وتشاد، وبورما، وغيرها من مناطق الصراع في العالم. حصلت الحكومة السويسرية على الموافقة من حكومة غزة ومكتب السيد الرئيس أبو مازن على الوساطة السويسرية في هذا الملف مع التأكيد على التعاون الكامل من المؤسسات الرسمية في غزة ورام الله (وزارة المالية، وديوان الموظفين، وزارات الصحة، والتعليم، والنقابات) لإنجاز العمل.
  • كلفت الحكومة السويسرية مؤسسة بال ثينك للدراسات الاستراتيجية كشريك فلسطيني ومؤسسة سويس بيس السويسرية المختصة في حل النزاعات وبرنامج الامم المتحدة الإنمائي  (UNDP) كمؤسسة أممية بوضع خطة العمل وإنجاز الخطة.

منهجية العمل والاسس الناظمة لها:-

استمر العمل أكثر من سنة شمل التنقل المكثف والهادئ بين غزة ورام الله، تضمن العمل تنفيذ عشرات اللقاءات البؤرية مع آلاف الموظفين في قطاع غزة من خلال مقابلات وجاهية وتعبئة استبيانات إلكترونية، وتحليلها في برنامج محوسب. وذلك بهدف تحديث الاحصائيات ومعرفة توجهات الموظفين تجاه المشكلة والحلول الممكنة. كذلك عقد العديد من اللقاءات مع المؤسسات الاهلية والدولية في غزة والضفة الغربية والقدس.

-خارطة الطريق “الورقة السويسرية” تمت بطريقة تشاركية كاملة وعلى جميع المستويات الادارية والسياسية. ففي حين كان دور المؤسسات (بال ثينك وسويس بيس وUNDP  مقتصرا على جمع الاحصائيات ومقابلة الجهات الرسمية على المستوى التقني والموظفين والمؤسسات الاهلية والدولية، عملت الحكومة السويسرية على تسويق خطة العمل على المستوى السياسي في رام الله وغزة والقاهرة والدوحة وبروكسل وغيرها من العواصم ذات العلاقة.

-خارطة الطريق” الورقة السويسرية” قدمت حلولاً لدمج موظفي حكومة غزة بما يتفق مع قانون الخدمة المدنية الفلسطينية ولا يتجاوزه كما ظن البعض. خارطة الطريق أكدت احترامها لقانون الخدمة المدنية والقانون الاساسي الفلسطيني وتطبيق مبادئ الشفافية والمهنية في الوظيفة العامة.

-لم يكن العمل في هذا الملف سهلاً بالمطلق، بل شابه الكثير من التشكيك وعدم الثقة، حيث أن جهود إنتاج خارطة الطريق كانت المحاولة الاولى منذ حدوث الانقسام لنقاش ملف ساخن. كان مستوى الثقة بين طرفي الانقسام منخفض جدا. لقد كان الحفاظ على الاستقلالية في العمل وضمان الامانة المهنية والشخصية مبادئ هامة جدا لكسب ثقة وتعاون الاطراف.

-قامت خارطة الطريق” الورقة السويسرية” على مبدأ اساسي هو ” راتب منتظم لكل من يعمل (موظفي حكومة غزة) وكل من يتلق راتبا عليه أن يعمل (موظفو السلطة الوطنية).

-الورقة السويسرية قدمت تحليل دقيق لاحتياجات القطاع العام الفلسطيني حاضراً و مستقبلاً والموارد المتاحة وكيفية توزيعها بما يخدم أهداف التنمية في فلسطين. كذلك تضمنت الورقة خطة دعم مالي دولي لتطبيق دمج الموظفين وتدريبهم وتطوير القطاع العام وتعويض الفجوة في المعرفة والخبرة التي سببها الانقطاع عن العمل سنوات عديدة. كذلك أكدت الورقة على حق الخريجين الجدد في الحصول على وظائف للمساهمة في حل أزمات البطالة بين الخريجين الجدد.

-تضمنت الورقة مقترحات بالتقاعد الاختياري لمن لا يرغب بالعودة للعمل كونه غادر قطاع غزة أو غير قادر على العمل لأسباب صحية أو اجتماعية أو ارتبط بوظيفة أخرى أو يمتلك مشروع خاص. كذاك تضمنت الورقة السويسرية تشكيل اللجنة القانونية والادارية للإشراف على عملية الدمج. كذلك يتم تشكيل لجان من خبراء متخصصين للمساعدة في عملية الدمج بدعم تقني خارجي.

-الورقة قدمت رؤى وأدوات وحلول خلاقة لإعادة تسكين موظفي السلطة الفلسطينية في أماكن عملهم أو في أماكن عمل مشابهة ودمج موظفي حكومة غزة بناء على معايير موضوعية ملتزمة بقانون الخدمة المدنية الفلسطيني الذي يشترط مؤهلات محددة لشغل مناصب عليا. كذلك اقترحت الورقة إمكانية استيعاب بعضهم، حسب الرغبة في منظمات المجتمع المدني وفي المؤسسات الدولية خاصة الاونروا.

-أعطت الورقة السويسرية الحق في الطعن والاستئناف للموظفين في حال عدم رضاهم عن الدمج أو إعادة التسكين. خارطة الطريق لن تطبق دون موافقة الموظفين جميعا ودون إبداء تعاون ومرونة من كل الاطراف لحل الازمة. كذلك اشترطت الورقة مصادقة الحكومة الفلسطينية عليها بشكل رسمي، تقوم الحكومة على إثر ذلك بدعوة موظفيها للعودة للعمل حسب ما تقترحه خارطة الطريق. ويتم توفير بيئة إيجابية مرحبة بعودتهم. كذلك أوصت الورقة بتحييد القطاع العام عن التسييس وفصله عن اي تنظيم سياسي، بما يستوجب منع وإزالة كل مظاهر التسييس في القطاع العام مثل الصور والشعارات.. إلخ.

-في مراحل إنتاج خارطة الطريق، أكد الكثير من الموظفين عن ترحيبهم بهذه الجهود التي تعيدهم إلى وظائفهم، بما يعيد لهم كينونتهم ورضاهم عن أنفسهم ويعيد لهم القبول الاجتماعي ويمكنهم من خدمة عائلاتهم ومجتمعهم.

-خارطة الطريق” الورقة السويسرية” لم تتوقف على معالجة تداعيات الانقسام فقط، بل تضمنت خطة تطوير وتحديث القطاع العام الفلسطيني للسنوات القادمة. حيث سيترافق معها برنامج إصلاح واسع للقطاع العام الفلسطيني بما يرتقي من مستوى الاداء ويعزز الانسجام والمهنية. خارطة الطريق” الورقة السويسرية” هدفت كذلك إلى رفع مستوى خدمات الصحة والتعليم اللذين شهدا تدهوراً كبيراً بسبب قرارات المقاطعة وحرمان عشرات الموظفين الاكفاء من مواصلة علمهم.

موافقة الأطراف ذات العلاقة:-

مع تشكيل حكومة الوفاق في يونيو 2014، أعلنت الحكومة السويسرية عن جاهزيتها للعمل مع الحكومة الفلسطينية في تنفيذ خارطة الطريق. بحيث يتم تطبيقها في قطاعي الصحة والتعليم أولا نظراً للحاجة الماسة لتطوير الاداء في هذين القطاعين وتمكين حكومة الوفاق من تقديم نموذج عملي يحقق تفكيكا لأحد ملفات الانقسام وتحقيق الثقة.  حيث أعلن السيد الرئيس محمود عباس عن قبوله للورقة السويسرية في المؤتمر الصحفي المشترك مع رئيسة الكونفدرالية السويسرية سيمونيتا سوماروغا في مارس 2015. كذلك أعلنت حركة حماس عن قبولها بخارطة الطريق.

من الجدير بالذكر هنا أن الجهد السويسري في ملف الموظفين كان متابعاً ومنسقاً ومدعوماً من بعض الاطراف الغربية التي لم تتمتع بذات القدر من المرونة والحرية في التواصل مع جميع الاطراف في فلسطين.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى