ثورات العرب الجديدة: نظرية مؤامرة أم إرادة أمة
بقلم: فادي الحسيني
ما أن قرعت الثورات باب المنطقة العربية، وانسحبت بسرعة عبر بوابات وأسوار قصور حكامهم، لتخلع بعضهم، وتهز عروش آخرين، بدأت تنهال التحليلات من كل حدب وصوب، فترى فريقا يرى فيها خطة غربية محكمة لتغيير خارطة الوطن العربي، أو ما تبقى منه، وفريقا آخر يرى أنها انتفاضة كرامة وكبرياء طال انتظارها، وبين هذا الفريق وذاك آخرون يرون فيها مادة علمية غنية لتحليل خلفيات ودوافع هذا الحدث الجلل، الذي عكس طفرة في منطقة وصفت كثيراً بخمولها وبطء تفاعلها مع التغيرات العالمية.
نهدف في مقالنا اليوم الى إبراز وجهات النظر الشائعة، والمتداولة كثيراً هذه الأيام، ليس في الوسط الأكاديمي والسياسي فحسب، بل وسط جموع الشعوب العربية التي انتابها الكثير من القلق والتوجس، بعد أن ذاقوا طعم الأمل مع أول شرارة انطلقت من تونس الخضراء، مع قيامنا بتقديم تحليل مبسط يسهل على القارئ تحديد ملامح هذا الحدث المهم.
ربط الكثير ممن رأى في ثورات العرب، أو ما أطلق عليه اسم ‘الربيع العربي’ جزءاً من نظرية المؤامرة، آراءهم بتصريحات وكتابات غربية كثيرة، كمقالات كتاب مثل برنارد لويس، وتيري ميسان، التي صورت المنطقة العربية بصورة جديدة، تشبه نسيجاً وشكلاً جديداً للمنطقة العربية أشبه بما حدث في اتفاقية سايكس بيكو. أما على المستوى الرسمي، فكان مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أطلقته إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش الأمريكية في اذار/مارس 2004 علامة ودليلاً اخر لمثل هذا التوجه.
جاء مشروع الشرق الأوسط الكبير في إطار مشروع شامل يسعى إلى تشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في منطقة تضم كامل البلدان العربية إضافة إلى تركيا، إسرائيل، إيران، أفغانستان وباكستان. بنيت النظرة الأمريكية لهذا المشروع على عاملين أساسيين، أولهما ضرورة إعادة ترتيب أوضاع المنطقة بعد إحكام سيطرة القطب الواحد على زمام الأمور في العالم، أما العامل الثاني فهو إصلاح ما أفسدته الحروب الأمريكية في العراق وأفغانستان، التي أضرت كثيراً بصورتها، ومصالحها وتطلعاتها، ضعف الثقة بالراعي الأمريكي، وانعدام رؤية واضحة لهذا المشروع أدى لفشله، ووضعه جانباً حال مشاريع إقليمية سابقة ولاحقة (مثل الاتحاد من أجل المتوسط الذي لاقى ذات المصير). هذا الفشل دفع المخطط الأمريكي للبحث عن خطة جديدة، تؤتي ثمارا لم تستطع سابقتها أن تحققها، فبدأ البحث في مشروع الإسلام المعتدل (المقصود نظم إسلامية معتدلة)، تبدأ بوصلتها بحزب العدالة والتنمية التي نجحت واستمرت في تركيا منذ عام 2002، وتستمر بالترويج إلى النموذج التركي، وما يشبهه أو يحاكيه من أنظمة إسلامية في المنطقة.
ومن هنا، فإن أصحاب هذا الرأي يرون أن انطلاق الثورات العربية ما كانت إلا إعلاناً لبدء الخطة الأمريكية الجديدة بوضع أنظمة إسلامية معتدلة، قدمت في وقت سابق أوراق اعتمادها لرأس الهرم العالمي، لتكون راعياً مقبولاً لمصالحها، وتكون نموذجاً جديداً ومختلفاً عن الأنظمة السابقة التي اتسمت بالشكل الغربي- إن صح التعبير. يربط أصحاب هذا الرأي حجتهم بالعلاقات التي ربطت هذه الجماعات الإسلامية بالولايات المتحدة الأمريكية قبل وبعد الثورات، وكذلك العلاقات الدافئة بينها وبين الغرب، حيث احتضنها في الوقت الذي كانت تكافح من بطش الأنظمة السابقة.
الرأي الآخر، الذي أميل إليه أكثر، هو أن ثورات العرب ما كانت لتقوم إلا لتصاعد وتيرة الإحباط وسط جيل الشباب العربي. هذا الجيل، وهو الشريحة الأكبر من مكونات الشعوب العربية، ورثت عن آبائها قصصا وحكايات عن مجد غابر، وأمة سبقت الكثير من الأمم في الحضارة والعلوم والثقافة والقوة على حد سواء. ولكن هذه القصص اصطدمت يوماً بعد يوماً بواقع محبط يملأه الشعور بالتبعية الصريحة لحكامهم للقوى الأخرى، وهزائم متتالية، وأوضاع اقتصادية كئيبة، وظروف اجتماعية صعبة، مع استمرار حالة القهر وانعدام الديمقراطية وحرية التعبير. أما حكامهم فقد غالوا في سطوتهم، وبالغوا في ثقتهم، فأضحت الانتخابات التشريعية أضحوكة ومسرحاً للسخرية، وأصبحت قضية توريث أبناء الحكام للسلطة (في النظم الجمهورية نظرياً) مادة فكاهية تختلط بمرارة وحسرة الواقع. في المقابل، رأى الشباب العربي تطورا ونجاحا ونصرا يحققه الآخرون، وأوضاعا اقتصادية واجتماعية تمنوها لأنفسهم، وقد ساهمت الشبكات الاجتماعية والتطور التكنولوجي في علم الاتصالات في تناقل الجيل الشاب لهذه الاهتمامات، وأصبح عالم الإنترنت هو العالم الذي يعبرون فيه عن مكنون أنفسهم.
جاءت لحظة الحقيقة، بغير توقع من أي خبير أو محلل أو سياسي، وانطلقت شرارة الثورات العربية من تونس الخضراء، التي عرفــــت بهـــدوئها ودماثة طباع أهلها، وما هي إلا أيام لتنتشر الثورات كالحمى من بلد لبلد، ومن دار لدار، وتحول العالم الخيالي على شبكة الإنترنت لواقع حقيقي، يؤتي أكله ويغير واقعا مقيتا، بعد أن قلل حكامهم من قيمة هذه الشبكات الاجتماعية، وهو ليس بالأمر الغريب، فمعظم حكام العرب هم من جيل قديم بعيد عن أفكار واهتمامات الجيل الشاب.
ما يدعم هذا الرأي عدد من الحقائق، أولها التخبط الغربي والتردد حيال هذه الثورات في بادئ الأمر، فدفعت وزيرة الخارجية الفرنسية ثمناً للثورة التونسية، حيث اضطرت ميشيل آليو ماري للاستقالة بعد أن أعربت قبيل أيام من فرار الرئيس السابق زين العابدين بن علي عن استعداد فرنسا لتقديم خبرتها لنظامه في مجال حفظ الأمن في الأيام الأولى من ثورة تونس. أما الموقف الأمريكي، فاتسم بالارتباك مع انطلاق الشرارة الأولى لثورة الياسمين. مراسلة البي بي سي في واشنطن كيم غطًاس وصفت ردود الفعل الأولى للخارجية الأمريكية ‘بأخذتهم الصدمة’، مضيفة أنه لم تكن لديهم معلومات كافية عن تونس في الفترة الأخيرة. وبالفعل، اقتصرت التصريحات الأمريكية في الأيام الأولى للثورة التونسية على إرشادات ونصائح أمنية لمواطنيها الموجودين في تونس.
لن يفوتنا في هذا السياق التنويه لحقيقة أخرى، وهو أنه وعلى الرغم من التخبط الغربي والأمريكي حيال ثورات العرب، إلا أنه ومع مرور الوقت، بدأت هذه القوى في استعادة توازنها، وأعادت تقييم الموقف بناء على المعطيات الجديدة، في محاولة لجعل نتائج هذه التطورات تصب في مصلحتها، ومحاولة استمالة الفائز في هذه الثورات، خاصة أنها تمتلك القوة بكافة أنواعها، فتحسن استخدام القوة الناعمة من خلال المشاريع التنموية والمساعدات، والتعاون الثقافي والاكاديمي والعلمي والفني وغيره، أما في القوة الخشنة فهي الأكثر تميزاً، حيث تمتلك القوة العسكرية الأكبر في العالم، وتمتلك رصيداً وأحلافاً في العالم يجعلها أيضاً تستخدم السلاح الاقتصادي والعقوبات كسلاح فاعل ومؤثر، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية، تفضل أن تستخدم ما أطلقت عليه وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون القوة الذكية، خاصة حيال منطقة الشرق الأوسط العربي، وهي مزيج بين القوة الناعمة والقوة الخشنة.
الفريق الثالث يرى في ثورات العرب الجديدة مادة علمية غنية، تستحق الدراسة، كمسرح جيد لربطها بنظيرات سابقة، وكمنبر مهم لإطلاق نظريات جديدة في السياسة الدولية. فبدأ البعض يربط هذه الأحداث بالمدرسة الواقعية، في تفسيرهم لحالة الفوضى والتحالفات واستخدام القوة، وآخرون ألصقها بالمدرسة الليبرالية الجديدة لتفسير دور القوة الناعمة لدول إقليمية، والدور الدبلوماسي للدول الكبرى التي أثرت في سير الأحداث، وكذلك حالة الارتباط بين دول الربيع العربي. وغيرهم ربطها بنظرية الثورات ليثبت صحة هذه النظرية بمركباتها المختلفة، وآخرون ألصق الأحداث بنظرية الدور لتفسير أدوار الدول الإقليمية والعالمية في هذه الأحداث. أما التوجه الجديد فهو ابتداع نظيرات جديدة لتفسير الربيع العربي، فمثلاً رأى البعض أنها الموجة الرابعة لموجات التغير الديمقراطي العالمية (في إشارة لنظرية هنتنغتون)، وآخرون رأوا أنها الحلقة الثالثة من ثورات العرب- كما أسلفنا في مقالنا السابق بعنوان ‘ربيع جديد: الشرق الأوسط بين تاريخ الثورات ومستقبل البلاد’.
إن الأمر الذي لا يدعو للشك هو أن الثورات هزت قلوب جميع سكان هذه المنطقة، وبعد أن مثًلت بارقة أمل لجميع الشعوب العربية، أدى استمرارها وتصاعد وتيرة العنف إلى فقدان الكثير من ثقتهم بها، وبدأ الشك يتسلل لنفوسهم، وبدأت تتساور لعقولهم أنها مكيدة جديدة لتدمير ما تبقى من الوطن العربي. ما زاد من حدة هذه الشكوك هو التكالب الخارجي على المنطقة بعد هذه التغيرات، حيث بدأت جميع الدول، إقليمية وعالمية، تحاول نسج علاقات جديدة مع الأنظمة الحديثة من أجل تأمين خطوط مصالحها، كما كانت على سابق عهدها، أو أفضل إن استطاعت.
إلا أن التشكيك في نوايا وانتماء من قام بثورات العرب يهدف بشكل مقصود أو غير مقصود لبث روح الهزيمة من جديد في نفوس العرب، بعد أن استفاقوا من غيبوبة طويلة، داهمت خلالها أوهام الشك مخابئ طموحاتهم، وأوهنت كوابيس الإحباط ركائز عزائمهم، ليظهر وكأن العنصر العربي حتى إن انتفض، سيبقى ألعوبة تترامها أقدام الطامعين.
ولكن، ويل لليقظة إن لم تمتزج بالانتماء، والثقة والجرأة إن لم تعبق بعطر الوطنية وروح العطاء، وهو السبيل للمحافظة على خطوة أولى في طريق تحرير أمة من براثن التبعية ووأد الكبرياء. فمن أجل مستقبل يحاكي أيام غرّاء، تسحق مؤامرات، وتزاح أنظمة، توقظ إرادة وتستفاق عزيمة، في أمة لن تعجز أن تلد في اليوم آلاف الأبطال: هي أمة العرب، أمة الشهداء، أمة الأنبياء.
‘ كاتب ودبلوماسي فلسطيني